الذين يصدّقون اليوم أن إسرائيل في حربها على إيران تستهدف المنشآت النووية أو حتى النظام الملالي فحسب، إنما شأنهم هو في الحقيقة شأن من صدق وما زال يصدق أن الحرب على غزة منذ سنتين تستهدف حماس، وكذلك من كان قد صدّق في ما مضى أن الحرب الأميركية على العراق (التي كان اللوبي الإسرائيلي عاملا أساسيا في الترويج لها والدفع إليها) كانت تستهدف أسلحة الدمار الشامل (!!!) وصدام حسين ونظامه فحسب…
هؤلاء للأسف لم يتعلموا شيئا من عملية التدمير الشامل لغزة وتجويع أهلها وإبادتهم، التي يشهدها القاصي والداني في العالم بثاً مباشراً منذ سنتين. كما لم يتعلموا شيئا من التدمير الشامل للعراق وتجويعه وجعله ونهباً للمرض والتحلل الاجتماعي على امتداد سنوات مديدة، من أجل "إعادته إلى العصر الحجري"…
وكأننا، لم نتعلم بعد أن استراتيجية إسرائيل، منذ قيامها، المتعلقة بالدول والمجتمعات العربية والإسلامية المحيطة بها والقريبة منها، كان وما زال عمادها يقوم ليس فقط على إضعاف قواها وقدراتها العسكرية، وإنما على سياسة "الإضعاف الاستراتيجي"، الطويل الأمد، العسكري والسياسي والاجتماعي والمؤسسي و الاقتصادي، أي الإضعاف الاستراتيجي المستدام للدول والمجتمعات، والاستثمار في عوامل ضعفها وهشاشتها وانقساماتها (الكثيرة والعميقة للأسف، والمتزايدة بفضل سلطوياتها العسكرية والإسلامية على أنواعها) من أجل تفكيكها وتقويضها.
ولا يقتصر الأمر على "دول الطوق"، بل يتخطاها بعيدا ليشمل كل الدول التي يمكن أن تشكل لها تهديدا مباشرا أو غير مباشر في العالم العربي والإسلامي. فلننظر على سبيل المثال إلى دلالات سياسة التحالف الاستراتيجي مع الهند، التي سعت إليه إسرائيل بنشاط محموم منذ نهاية السبعينات، ومحاولاتها الحثيثة لإقناع إنديرا غاندي في بداية الثمانينات بمساعدة إسرائيل أو مشاركتها في عملية عسكرية تهدف إلى تدمير المنشآت النووية الباكستانية…
لا شك أن إسرائيل اليوم، التي تحكمها أكثر النزعات الصهيونية غلواً وتطرفاً وعنصرية، تريد تدمير المنشآت والقدرات النووية والبالستية الإيرانية. لكن الحرب الإسرائيلية على إيران تندرج في إطار استراتيجي أوسع بكثير. وليس من المبالغة القول أن إسرائيل ستعمل كل ما وسعها لاستنساخ النموذج العراقي، أي للعَمل على التدمير الشامل للقدرات العسكرية والبنى التحتية والمنشآت الاقتصادية الإيرانية، لإعادة إيران "إلى العصر الحجري". لذا يعمل بنيامين نتنياهو بلا كلل ولا ملل لاستدراج دونالد ترامب للانخراط في حربه التدمرية هذه، لكي لا يبقى شيء من "ما كان يعرف يوما بالإمبراطورية الفارسية وحضارتها".
فإلى أي حد ستنجح إسرائيل في استراتيجية التدمير الشامل هذه من أجل بناء أمبرطوريتها وسلطانها الاستعماري الجديد في الشرق الأوسط الكبير؟
هذا هو السؤال الذي تطرحه الحرب الإسرائيلية اليوم.