يشكك البعض في جدوى قافلة الصمود التي انطلقت من دول متعددة نحو غزة، ويقلّلون من شأنها بحجة أنها قد تُمنع من العبور إلى القطاع، أو أن المساعدات التي تحملها قد لا تصل إلى مستحقيها بسبب الحصار المصري الإسرائيلي. ويتساءل آخرون: ما الفائدة من حملةٍ يُتوقع أن تُحبس عند الحدود وتُجهض قبل الوصول؟
لكن هؤلاء، في حقيقة الأمر، لم يدركوا أن الفعل المقاوم لا يُقاس فقط بنتيجته المادية المباشرة، بل يُقاس أولًا بما يخلقه من وعي، وما يوقظه من ضمائر، وما يزعزعه من صمت، وما يُعيد رسمه من خرائط الكرامة والتضامن.
لقد نجحت القافلة، حتى قبل أن تصل.. نجحت لأنها أحيت مجددًا نبض الشعوب، وأثبتت أن القلوب لا تزال متصلة بغزة، رغم محاولات التطبيع والتخدير والانشغال اليومي.. نجحت لأنها صنعت مشهدًا إنسانيًا عابرًا للحدود، جمع بين مختلف الأجناس والديانات والتيارات السياسية، تحت راية إنسانية واحدة: رفع الحصار عن شعب يُذبح في صمت..
نجحت لأنها أحرجت الأنظمة المتواطئة، ووضعتها أمام مرآة مخزية؛ فإن من يمنع الغذاء والدواء عن الأطفال ليس فقط من يحتل الأرض، بل أيضًا من يسد المعبر، ويُغلق الأبواب، ويتواطأ بالصمت أو بالتبرير.. أو بالمتاجرة..
نجحت لأنها أعادت صياغة مفهوم الدعم؛ الدعم ليس فقط عبر الحكومات والقرارات الرسمية، بل عبر الشعوب والأفراد الذين يأبون أن يكونوا شهود زور على نبض الشعوب الوحشية، فيخطون على الطرقات الطويلة بكرامتهم وإنسانيتهم.. بالفعل الملموس والتضحية الغالية..
لقد تجاوزت القافلة لحظة العجز الأولى الذي كبّلنا.. أعظم ما حققته هذه القافلة هو أنها خطت أول خطوة نحو تجاوز العجز الجماعي الذي شلّنا طيلة سنوات، وأدخلتنا، ولو لحظة، إلى منطقة "الممكن"، بعد أن سُجنّا طويلًا في أوهام "المستحيل".. وهذا إنجاز ضخم في ذاته؛ أن نكسر القيد الداخلي، أن نحرك الإرادة، أن نحلم ونترجم الحلم إلى فعل، رغم إدراكنا الكامل للمخاطر..
فالقافلة ليست خالية من الأخطار، بل محفوفة بالموت نفسه.. والذين انطلقوا فيها يدركون أنهم قد يُستهدفون، أو يُعتقلون، أو يُحاصرون.. ومع ذلك، تقدموا.. وهذا في عالم بات فيه الخوف هو الحاكم الأعلى، ليس بالقليل..
رسالة مدوية إلى أحرار مصر.. وإذا تجرّأ النظام المصري على منع القافلة من العبور، فهذه القافلة قد نجحت في إقامة الحجة البالغة على كل حرّ في مصر.. فالرسالة واضحة: إذا كانت شعوبٌ بعيدة قد خاطرت بأرواحها وكرامتها من أجل كسر الحصار، فماذا بقي للمصريين؟ ما الذي ينتظرونه؟ أليسوا الأقرب دمًا وجغرافيا وأخوة؟ أليس معبر رفح على أرضهم؟ لقد بات الصمت خيانة، ولم يعد هناك عذر يُقبَل..
القافلة كسرت الحصار المعنوي.. الحصار الحقيقي ليس ذلك المفروض بالسياج والأسلاك، بل هو الحصار المفروض على الذاكرة، على التضامن، على القدرة على الإحساس.. والقافلة، بهذا المعنى، نجحت في كسر الحصار الأخطر: حصار الغفلة واللامبالاة..
قافلة الصمود لم تكن مجرد مركبات تتحرك نحو غزة، بل كانت قافلة من الوجدان الإنساني الذي رفض أن يبقى جالسًا في مدرجات العالم المتفرج.. لقد رفعت رؤوسنا عاليًا، وقالت لنا بلغة بسيطة وصادقة: "افعلوا شيئًا، ولو بدا بسيطًا، فهو لا يُستهان به في ميزان التاريخ.".. ومن منّا لم يسأل نفسه عن كيفية المشاركة وأصبح يرى نفسه صغيرا أمام هؤلاء الأبطال الشجعان..