في محاولة فَهم ما حدث ويَحدث في تونس منذ 21 جويلية 2021، لا تكفي القراءة الكلاسيكية في حدود الوقائع الدستوريّة والقانونيّة أو السياسيّة. ثَمّة ضرورة لتوسيع أفق التحليل ليشمل البعد الاتّصالي الذي تُدَار بواسطته طريقة تسيير للبلاد. وفي هذا السياق، يَبرز ما يمكن تسميّته بالزمن السياسيّ كعنصر مُنظّم لإيقاع الفعل السياسي والضابط لنمط حضوره في الفضاء العام، إذ دشّنت الإجراءات الاستثنائية لرئيس الجمهورية قيس سعيد نمطًا زمانيّا مقلوبًا، ولم نعد أمام سياسة تُدار في وضح النهار، بل صار الهزيع الأخير من الليل توقيتا رسميا للإدارة، كما لو أن السلطة لم تَعُد تَجِد في ساعات اليقظة ما يكفي من الطاعة.
إقالات وتحويرات وزارية ومراسيم وبلاغات تمسّ من بنية الحكم ونظامه كلّها تصاغ في متن الليل. لا يبدو هذا الانزياح اعتباطيا أو مجرد صدفة إجرائية، بقدر ما يشي بوعي سلطويّ يُعيد تشكيل العلاقة بين الحاكم والمحكوم بواسطة الزمن. وأبرز مثال راهني وَضَعَ الزمن السياسي الجديد تحت مجهر المساءلة لدى الرأي العام؛ الزيارة الفجائية التي قامَ بها الرئيس في حدود الساعة الرابعة فجرا إلى منطقة المزّونة التابعة لولاية سيدي بوزيد، إثر احتجاجات الأهالي المتواصلة لأربعة أيام عقب فاجعة سقوط جدار حائط المعهد الثانوي، وأودَى بحياة ثلاثة تلاميذ. لم تُعلن الرئاسة عن زيارة التعزية لأهالي الضحايا مسبقًا، ولم تُرافقها تغطية صحفية، بل ظهرت الصور لاحقًا بشكل مفاجئ على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، تَحمل الطابع المُعتاد للاتصالات الأحادية التي دأبت عليها مؤسسة رئاسة الجمهورية، فقد كان الرئيس في الوسط، يتحدّث، يُوجِّه، يُعاين، ويتوعد المتآمرين.
تَجاوزَ الزّمن بعده الفينومينولوجي، وتحوّل إلى أداة مدروسة تُقصي المشاركة وتؤجل المساءلة، وتُفصح مع كل إعلان يأتي بعد منتصف الليل على صفحة رئاسة الجمهورية على موقع فايسبوك -النافدة الوحيدة التي يخاطب منها الرئيس ناخبيه- عن رسالة ضمنية: “لسنا في حاجة إلى جمهور، لسنا في حاجة إلى مشاركة، نحن نقرر وحدنا، في زمننا الخاص”.
نحاول في هذا المقال تفكيك هذا “اللّيل السياسي” الذي تتغذى منه رئاسة الجمهورية كمنظومة حكم جديدة، ونقرأ فيه محاولات التأسيس لمشهد سلطويّ غامض ومعزول ومُفتقر للشفافية، سؤالنا فيه: كيف يُمكن تفسير هذا الزمن السياسي في ظل السلطة الجديدة؟
حين تتكلم السلطة في الليل: الزمن السياسي للرئيس سعيد
“في ليلة 17 أوت المظلمة من “القاعة الزرقاء” في قصر قرطاج، خَتَم سعيّد دستوره وحيدًا أمام الكاميرا باستثناء حارسيْن يظهران على الشاشة من حين لآخر” مثلما وصف ذلك الباحث في القانون العام، مهدي العش. كان المشهد مُوغلا في الانفرادية، فقط يدٌ تُمسِك بقلم وتختم الدستور، في حين كان الضوء المسلّط على الورقة البيضاء يُلقي بظلّ الرئيس على الجدار من خلفه كأنّه شَبَح ذاته. منذ تلك اللحظة وما تلاها من إعلان تأسيس جمهورية تنمو في العتمة، أصبح اللّيل توقيته المُفضل. ففي الساعات المتأخرة، عندما تتحوّل ساحة “القصبة” إلى مدينة أشباح وساحة “باردو” إلى مسرحٍ لا جمهور له، ومتى ينام الخصوم وينسحب هتاف الثورة من الشوارع، يَصوغ الرئيس مراسيمه ويعيّن ويعزل ويهاجم ويتّهم بالعمالة ويَخطب في أنصار المسار من “الوطنيين الصادقين “.
كان المشهد يعكس تحوّل الفعل السياسي إلى أداء رمزي يتجاوز مضمون القرارات، ليغدو ممارسة مشبَعَة بالدلالات والإيحاءات. فبدل أن يقتصر على الإطار المؤسساتي، أصبح طقسًا يُعيد إنتاج السلطة من خلال إخراجٍ مدروس يحاكي المخيال الجماعي الراغب في إعادة سيناريو حكم الرئيس الأوحد، وتشكيل معاني الشرعية والسيادة. في هذا السياق، يوفّر التحليل السياسي الثقافي (Political-Cultural Analysis) أدوات لفهم هذه الأبعاد الرمزية، عبر مساءلة الطقوس والخطابات والإشارات التي تُضفي على الممارسة السياسية طابعًا مسرحيًا. انطلاقًا من هذا الإطار النظريّ، يُشكّل تصور تشارلز تايلور[1] للسياسة الرمزية (Symbolic Politics) مدخلًا تأويليًا يضيئ البنية التفسيرية لممارسات سعيّد، حيث لا تُفهم إلا عبر تفكيك تمثّلاتها، وما تختزنه من طموح لتأسيس سردية وطنية جديدة.
يُشير تايلور إلى أن الفعل السياسي الذي ينشأ خارج المؤسسات التقليدية يعكس رغبة في “إعادة بناء التاريخ” عبر إعادة تشكيل الزمّان والمكان، حيث يُصبح الزمن السياسي نفسه أداة لإعادة تعريف العلاقة بين السلطة والمجتمع،[2] وهكذا يغدو الزمن ميدانًا تتحرك فيه دلالات القطيعة والتقاطع، حيث لا يُستدعَى الليل بوصفه لحظة عابرة، بل كعلامة مشحونة بالرغبة في الفكاك من سرديات النهار، واستدعاء سردية جديدة تتسع لبطولة مؤسِسّة يُراد لها أن تُعيد ترسيم حدود الشرعية والتاريخ. اختيار الليل، وفق هذا التصوّر، يَرمز إلى قطيعة مع النهار الذي يَحمل دلالات النظام السابق بكل مؤسّساته وإجراءاته ونُخبه، ويُحيل إلى الدّولة البيروقراطية والتعدّدية السياسية التمثيلية، وإلى تقاليد التداول المؤسساتي للسلطة. ويعكس رغبة في إنتاج زمن سياسي جديد ينفصل عن تلك المرجعيات، ويُعيد تشكيل الشرعية وفق سرديّة “حرب التحرير” التي يتبنّاها قيس سعيّد، محاولًا من خلالها إعادة كتابة التاريخ الوطني. وبهذا المعنى، لا يكون الليل مجرّد سِتَار زمنيّ لأفعال السّلطة، بل يتحوّل إلى لحظة تأسيسيّة لسردية تُعيد ترتيب الزمان والمكان والشرعية على مقاس الإرادة الجديدة.
في السياق الشعبوي، لا يُمكن فصل الرّموز عن الممارسات. إذ أن كلّ تفصيل يَحمل شحنة دلاليّة تتجاوز ظاهرها. في الحالة التونسية، بَرز شعار “الشعب يريد” كعلامة فارقة في الحملة الانتخابية للرئيس سعيّد في الانتخابات الرئاسية سنة 2019، وهو شعار مُتجذّر في سجل الثورة بصياغة كاملة “الشعب يريد إسقاط النظام”، ومن خلاله جرت إعادة صياغة للعلاقة بين القائد والجمهور في شكل من أشكال الاستدعاء المستمرّ لإرادة شعبوية فوق مؤسساتية. لكن اللافت في تجربة قيس سعيد أن هذا الشّعار لم يبقَ حبيس الحملات الخطابيّة، بل تجلّى عمليا في ممارسة ليلية للسلطة. فالليل، في رمزيته السياسية، يتحوّل إلى الفضاء الأمثل لتجسيد الشعار، حيث يتقلّص حضور المؤسسات وتَضعف وسائط النخبة، فيُتاح للقائد أن يُخاطِب “الشعب” بشكل مباشر وغير مُفَلتَر. هذه الثنائية بين الشعار والممارسة الليليّة تعكس بدقة ما وصفه إرنستو لاكلو بـ”الاختزال التمثيلي”[3]، حيث يتم اختزال تعقيد الإرادة الشعبية إلى علاقة مباشرة وبسيطة بين القائد والجمهور، مما يُعيد إنتاج تمثيلية بديلة تتجاوز الوسائط المؤسساتية التقليدية. كما ينسجم هذا المنطق مع تصوّر “شانتال موف” التي ترى في الشعبوية “استراتيجية لإعادة تسييس المجال العمومي ضد احتكار النخب”، عبر تفعيل أشكال بديلة من التعبير السياسي تتجاوز البنى الرسمية. فالليل يتحول إلى مسرح لهذه الاستعادة، حيث تُعلَن القرارات المصيرية بعيداً عن بيروقراطية النهار وضجيج المؤسّسات[4].
في هذا السياق، يَكتسب شعار “الشعب يريد” وظيفة أدائية مضاعفة: فهو من جهة، شعارٌ تعبويّ يَختصر الإرادة العامة، ومن جهة أخرى مُبرّر زمني لممارسة سياسية استثنائية تتمّ في ساعات الليل، بعيداً عن أعين النخبة التقليدية. وهنا ينطبق مفهوم جورجيو أغامبن عن “حالة الاستثناء”، حيث يتوقف العمل بقواعد الشرعية المعتادة، ويُعاد فيه إنتاج السلطة باسم الشعب. ولا يغيب عن هذا المشهد البعد السوسيولوجي للّيل كـ “زمن للهامشيين”، وفقاً لما طرحه ميشيل دو سيرتو، حيث يتلاقى الزمن الهامشي مع الفاعل الشعبوي لإنتاج خطاب يتجاوز الرسميّ والمُؤسّسيّ. وهكذا، يُصبح شعار “الشعب يريد” ليس مجرد تعبير عن إرادة جمعيّة، بل حجّة زمنيّة تبرّر ممارسة السلطة في ظروف استثنائية تكرّس العلاقة المباشرة بين القائد والشعب[5].
من جانب آخر، يرتبط الليل في المخيال الجمعي بالحكمة والتأمّل العميق، وهي دلالات يبدو أن قيس سعيّد، الأستاذ الجامعي ورجل القانون الدستوري، يَسعى لتكريسها. فالقرارات التي تُتّخذ في ساعات الليل، ليست مجرد إجراءات قانونية، وإنما تُقدّم في سياق يُوحِي بأنها ثمرة تفكير داخلي عميق بعيد عن ضغوط الزمن السياسي اليومي؛ قرارات تُصوَّر كما لو أنها خرجت من كهف الحكمة لا من دواليب الإدارة، وتكاد تُشبه طقوس الوحي. حيث يظهر الرئيس في مشهد تملؤه الجديّة المفرطة، ليُعلن عن تصورات كبرى لمصير الأمة. في هذا الاتجاه، نستحضر ما أشار إليه الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، الذي رأى أن الليل ليس مجرد غياب للنور، بل هو لحظة وجودية تنكشف فيها الذات للعدم، وتدخل في علاقة أكثر تقاطع مع وجودها[6]. ففي كتابه Was Heißt Denken? “/ما معنى التفكير؟” يعتبر أن لحظة التفكير الحقيقي لا تحصل تحت أضواء اليوم العادي، بل في عزلة الليل حيث الصمت يفسح المجال أمام صوت “الكينونة” كي يُسمَع[7]. وهو ما يجعل من اللحظة الليلية مشهدا رمزيا للتفوّق الأخلاقي والفكري، في مقابل زمن النهار الذي يُمثل “الفوضى السياسية” و”النقاشات العقيمة” التي طالما هاجمها الرئيس.
من جانبه، يُشير عالم الاجتماع الفرنسي ميشيل مافيزولي[8] إلى أن الزّمن ليس محايدا رمزيًا، بل يُستثمر سياسيًا لصناعة مشهديات جماعية. فالليل، بصفته زمناً للانفصال عن الجماعة والاقتراب من الذات، يُستخدم لبناء صورة القائد “المتفرّد”، الذي يَعمَل حين ينام الجميع، ويُقرّر حين يعجز الباقون عن الحسم.[9] وهكذا، تُصبح القرارات الليلية عند سعيّد ليست فقط تقنية في الحكم، بل مشهديّة رمزية تُنتج خطابًا عن الحاكم المتعالي على الزمن السياسي، والقادر على إنقاذ الجماعة من داخل وحدته.
حين يُطفئ الحاكم الضوء: الزمن السياسي الليلي وتآكل العلاقة مع المواطن
في العلوم السياسية، الزّمن ليس مجرد خلفية محايدة تدور فيها الأحداث، بل هو عامل بنيوي في إنتاج السلطة ذاتها؛ فالسّلطة لا تُمَارس فقط من خلال النصوص أو المؤسسات، بل أيضًا عبر التحكم في الإيقاع الزمني لتوجيه لحظة اتخاذ القرار، وتحديد لحظة البوح به. هكذا يُصبح الزمن ما يسمّيه ميشيل فوكو بـ”تقنيات الحكم”، أي تلك الآليات التي تُطوِّع من خلالها السلطة جسد المجتمع، وتُعيد تشكيل إدراكه للواقع والسياسة.
التمييز بين “الزمن السياسي /temps politique” و”الزمن المؤسّسي/ temps institutionnel ” يكتسب هنا أهمية تحليلية حاسمة. إذ يُحيل الأوّل إلى توقيتات القرار السلطوي كما يحدّدها الحاكم أو النظام، أي اللحظة التي يقرّر فيها أن يقول أو يفعل شيئًا ما سياسيّا. أمّا الثاني، فيرتبط بدينامية المؤسسات، بإيقاعها الطبيعي من خلال الدورات البرلمانية وزمن التشاور ولحظات الرقابة ووتيرة العمل الدستوري[10]. حين يتمّ الانحراف عن الزمن المؤسسي لصالح زمن سياسي مفاجئ، خصوصا إذا اتخذ شكل قرارات تُعلن في وقت متأخر من الليل، فإننا نكون أمام إعادة ترتيب علاقة السلطة بالمجتمع على نحو لا يمرّ من دون أثر. هذا الانحراف نحو “زمنيّة استثنائيّة” يُضعِف منطق المشاركة السياسية، ويُحوّل الدولة من جهاز تمثيليّ إلى سلطة إعلان فوقيّ. فعندما تستسهل السلطة إصدار قراراتها في توقيتات ليليّة، فإنها لا تُقصي المواطن من المشاركة فقط، بل تُخرجه رمزيًا من الزمن السياسي نفسه[11]. فالقرار لم يُصنَع ليُناقش أو يُتداوَل، بل ليفرض وقعه كصدمة. وهنا تحديدًا يتدخّل البُعد الرمزي، حيث تتحول الليلية إلى أداة لطمس الشرعية. إذ أن الذاكرة السياسية الجماعية، خصوصًا في السياق العربي، ربطت دائمًا بين العَلن والشرعية، وبين النهار والحكم الرشيد. في المقابل، رُسِّخَت صورة الليل باعتباره لحظة المكر والانقلاب والمؤامرة. فالحاكم الذي يُقرّر حين ينام الناس، لا يتجاوز فقط المؤسسات، بل يخرق أيضًا أحد أسس التعاقد الرمزي مع المواطنين: الشفافية والتداول والتوقيت المفتوح على النقاش.
إن هذا التحوّل في “زمنية القرار” يُعَمّق فجوة الثقة بين الدولة والمواطن، إذ يُصبح (المواطن) دائم الشعور بأنه متأخر عن اللحظة السياسية، وعاجز عن التفاعل معها أو التأثير فيها. يُذكّرنا هذا بما أسماه هابرماس بـ”إقصاء الفعل التواصلي”، حيث تُفرَغ الديمقراطية من بعدها التداوليّ، وتُختزل في إعلان فوقي لا يترك مجالًا للتفاعل[12]. ومع الوقت يُنتج هذا الإقصاء شعورًا عامًا بالاغتراب السياسي، ويغذّي ما يسميه بيير روزنفالون بـ”الديمقراطية السلبية”، أي فقدان الثقة في المؤسسات والعودة إلى أشكال تعبير احتجاجية غير تقليدية. لكن الأهمّ من ذلك، أنّ هذا السلوك يُعيد إنتاج صورة الحاكم الذي لا يُلزم نفسه لا بزمن الجمهورية ولا بإيقاع المؤسسات. فنحن لا نكون أمام مجرد اختيار ظرفي للتوقيت، بل أمام منطق يُشرعِن القرار الانفرادي، ويُنتج تصورًا للسلطة كفعل سيادي مطلق لا يُسَاءَل ولا يُقيّد. هنا يُصبح الليل حاضنًا رمزيًا لاستثناء دائم، لا مجرّد حالة طارئة، بل أسلوب حكم. وهو ما يُحيلنا إلى تحليلات جورجيو أغامبن حول “الاستثناء الذي يتحوّل إلى قاعدة”، حيث يَغدو النظام السياسي آلة تُنتج الشرعية من ذاتها، وتعيد تعريفها باستمرار خارج أي مساءلة مؤسّسية. في هذه الحالات، يتحوّل الليل من مجرد إطار زمني إلى خطاب ضمني: “نقرر حين لا أحد يَراقب، ولا أحد يناقش”. وهنا تَظهر خطورة هذا النمط الزمني في الحكم، لأنه لا يُنتج فقط قرارات فوقية، بل يُفكّك بالتدريج مبدأ التشاركية، ويُحوّل المواطن من فاعل سياسي إلى متلقٍّ دائم، ينتظر الرسائل السلطوية في نشرات الأخبار أو على مواقع التواصل. حين يفقد المواطن أي أثر زمني له داخل القرار السياسي، فإن ما يتفكك ليس فقط الثقة، بل أساس التعاقد الجمهوري نفسه.
اللّيل السياسي ليس فقط لحظة مُعتَمة، بل هو أيضًا أسلوب لإقصاء المواطن من زمن القرار، وإنتاج سلطة لا تكتفي بأن تَحكم، بل تختار اللحظة التي لا يُسمع فيها صوتٌ غير صوتها. وهذا، في العمق، هو لحظة انكسار السياسة نفسها كفعل تشاركي مفتوح على الزمان، لا كأمر يَصدر في الظلام[13]. إذ تستغل السّلطة الزمن كأداةٍ للهيمنة والسيطرة، متّخذة منه وسيلة لإخفاء نواياها وتعزيز موقعها في الحكم. ومثلما أشار فوكو، فإن السيطرة على الزمن يعني التحكم في الحياة اليومية، وفي الإيقاع الذي يُحدّد كيفية ارتباط الأفراد بالدولة. وعندما تُتّخذ القرارات في الليل، يُصبح هذا الفعل مرتبطًا بجوّ من السرية، مما يَمنَح السلطة ميزة التحكم الكامل دون تدخلات أو اعتراضات. ليس فقط ما يحدث في الليل هو المهم، ولكن أيضًا ما لا يحدث: تٌغلق الأبواب، وتُخفَى الجهود، ويتقلص المجال العام، ممّا يسمح بتسيير الأزمات واتخاذ القرارات الحاسمة بعيدًا عن الأنظار.
يُعتبر هذا الاستخدام الزمني للسلطة جزءًا من مشروع طويل الأمد لبناء منظومة حكم معزولة عن أيّ مساءلة حقيقيّة. إذ أن التوقيت الليلي لا يُوفر فقط الحماية من التدخلات السياسية، بل يُمهّد لهيمنة السلطة على الواقع العام. كما أن هذا التوقيت يحدّد إيقاعًا موحّدًا للقوة، حيث يتم بناء وتشكيل “الحدث السياسي” بشكل متسلسل ومُنَظّم بعيدًا عن التأثيرات الشعبية، ويُسهِم في خلق انطباع لدى المواطن ب-أن السلطة هي التي تُقرّر وتُحدد اللحظة والتوقيت الذي يناسبها.
الهوامش
[1] تشارلز تايلور فيلسوف كندي بارز، يُعدّ من أهم المفكرين في الفلسفة السياسية المعاصرة ويُعرف بمساهماته الغنية في مجالات الهوية والحداثة والديمقراطية.
[2] Taylor, C. (2004). Modern Social Imaginaries. Durham: Duke University Press , p23-30
[3] Laclau, Ernesto. On Populist Reason. London : Verso, 2005. Chapter 4 : “Demands and Popular Identities”, pp. 73–74.
[4] شانتال موف، من أجل شعبوية يسارية، ترجمة غير رسمية عن الطبعة الإنجليزية، المقدمة، ص5
[5] Michel de Certeau, The Practice of Everyday Life, trans. Steven Rendall, University of California Press, 1984
[6] Heidegger, Martin. (1954). Was Heißt Denken ? Tübingen : Max Niemeyer Verlag.
[7] كتاب “Was heißt Denken? ” لمارتن هايدغر، الذي نُشر عام 1954، هو تجميع لمحاضرات ألقاها هايدغر في جامعة فرايبورغ خلال العامين 1951–1952 التي تتناول موضوع التفكير من زوايا متعددة. في هذا العمل، لا يُخصص هايدغر فصلاً أو جزءًا محددًا لمفهوم “الليل” كموضوع مستقل بل، يتناول هايدغر في محاضراته موضوعات تتعلق بالتأمل والصمت والعزلة، والتي يمكن أن تُرتبط رمزيًا بفكرة الليل. على سبيل المثال، في المحاضرات الأولى، يناقش هايدغر الحاجة إلى تعلم التفكير الحقيقي، مشيرًا إلى أن التفكير العميق يتطلب الانفصال عن الضجيج اليومي والانخراط في تأمل داخلي.
[8] عالم اجتماع فرنسي بارز، وُلد سنة 1944، ويُعتبر أحد الأسماء المؤثرة في علم الاجتماع الثقافي المعاصر. يُعرف مافيزولي أساسًا بأعماله حول ما بعد الحداثة، والهوية الجماعية، والرمزية، والظواهر الثقافية المعاصرة.
[9] Maffesoli, Michel. (2007). Le temps revient : Formes élémentaires de la postmodernité. CNRS Éditions.
[10] Rosanvallon, P. (2006). La Contre-Démocratie : La politique à l’âge de la défiance. Seuil
[11] Agamben, G. (2005). State of Exception. University of Chicago Press.
[12] Habermas, J. (1984). The Theory of Communicative Action. Volume 1. Beacon Press.
[13] Foucault, M. (1991). Governmentality. In G. Burchell, C. Gordon, & P. Miller (Eds.), The Foucault Effect: Studies in Governmentality. University of Chicago Press