ما أشبه الانقلابات ببعضها!

بعد مرور عشر سنوات على الثورة الفرنسية، وبالتحديد سنة 1799 قام نابليون بونابرت بانقلاب عسكري استولى بموجبه على السلطة. لقد اتّهم الحكومة القائمة آنذاك بالفساد والخيانة والتنكيل بالشعب وتجويعه. نعم هذه هي العبارات بالضبط! واعتبر ان البرلمان خطر داهم يهدد الدولة. نعم هذه هي العبارات بالضبط! وافتعل عمليه اغتيال وهميّة ضدّ شخصه، اتهم على إثرها من وصفهم بالخونة والعملاء والمتآمرين مع الخارج (أنجلترا) بالوقوف وراءها. نعم هكذا! وأقال الحكومة وحلّ البرلمان. نعم هكذا! وفي غضون ثلاثة أسابيع فقط سنّ دستورًا على مقاسه. نعم هكذا! وأثناء كل ذلك، اي وهو يقوّض أسس الدولة، كان يُقسم أنه يريد إنقاذ الجمهورية. نعم هكذا!

لا شكّ أنّ العقل السياسي لكل الانقلابات واحد. يتعلق الأمر هنا بنفس البنية الذهنية وإن اختلفت السياقات. عقل واحد يخترق الأزمنة والأمكنة ويعيد إنتاج نفسه باستمرار.

من حيث المعنى، ما حدث في تونس هو نسخة مطابقة لكل انقلاب، وإن اختلفت تفاصيل المبنى. لكن المسؤولية لا تقع على عاتق الانقلاب فقط. فهو قدرٌ تاريخي ولِد طبيعيّا من رحم الفشل. فشل النخبة، لا الشعب.

الانقلاب، كل انقلاب، يتغذّى ويستمر من وجود عدوّ. فإذا لم يجد عدوًّا، اصطنعه. الانقلابات التي حدثت في البلاد العربية، بدءًا من مصر مع عبد الناصر مرورا بالعراق مع صدام حسين وصولا الى سوريا مع حافظ الأسد وليبيا مع معمر القذافي، رحمهم الله جميعًا، كلها دون استثناء انتعشت من وجود عدوّ.

أحيانًا يكون العدو داخليًّا، مثل المعارضة. واحيانا اخرى يكون خارجيّا، مثل الكيان الصهيوني أو الامبريالية او ما اتفق من "التحديات"، وأحيانا من الاشباح. المهم أن يكون هناك عدوّ. سواء حقيقيّا أو وهميّا. موجودًا بالفعل أو مصطنعًا.

وفي المطاف الاخير يذهب المنقلب ولا يحقّق نصرًا، لا داخليا ولا خارجيا. لا الأمن ولا الرفاه. لا التنمية ولا التحرر من العدو الخارجي. بل يترك وراءه الأنقاض.

مصر نموذجا، حيث لم يحقق الانقلاب مع عبد الناصر اي انتصار لا داخليا ولا خارجيا. الانتصار الوحيد الذي حققه كان على معارضيه العزّل. على ابناء وطنه. كان يصفهم بالخونة والعملاء. ويهجم عليهم بآلات الدولة ولا يواجههم بالفكرة أو القيمة. فالانقلاب لا يملك فكرًا. في مصر الان، الملايين من البشر يعيشون في المقابر والشوارع. وآلاف العائلات تعيش في قوارب في نهر النيل. اما ضد الكيان الصهيوني، العدوّ الحقيقي، فالهزيمة تلو الاخرى. تلك هي تركة الانقلاب.

ليبيا نموذج آخر. فقد خلّف الزعيم الراحل معمر القذافي بعد إزاحته من الحكم حطامًا يعجز الخيال الشعري من كل اللغات عن وصفه.

سوريا نموذج آخر. ملايين من اللاجئين في الداخل والخارج جراء الاستبداد. اكبر موجة لجوء في التاريخ المعاصر بسبب التمسك الاعمى بالسلطة. فضلا عن مئات الالاف من الذين أعدموا واغتصبوا وشرّدوا. أمّا في مواجهة الكيان الصهيوني في الجولان المحتل فلم تُطلق رصاصة واحدة.

قد تكون نوايا هؤلاء القادة طيبة ومقاصدهم وطنية ونبيلة. ولكن سياسة الاستبداد التي سلكوها مخرّبة ومدمّرة. لم يسجّل التاريخ إنجازًا واحدًا لمنقلبٍ.

الملفت ايضا ان العقل السياسي للانقلاب في كل هذه البلدان يظل، الى آخر لحظة، يعيش حالة إنكار تماثل انقطاع الموتى عن الحياة.

تقول "حنّا آرنت" ان المستبد يبلغ لحظة يفقد فيها القدرة على رؤية الواقع. نوع من الغياب الذهني التام، حيث تتعطّل كل المدارك عن التلقّي والرصد. صفر من الفهم.

في القرآن الكريم، ورد تصوير بليغ يصف استحالة معالجة هذا الغياب الذهني الذي يصيب عقل المستبد.

فلنتأمّل سويّا هذه الآيات:

"ولو ترى إذِ المجرمون (يوم القيامة) ناكسو رؤوسهم عند ربهم."

فماذا يقولون بعد أن يطأطئوا رؤوسهم؟

"ربّنا أَبْصَرْنا"

ثمّ ماذا؟

"وسمعنا"

فماذا تريدون؟

"فارجعنا" الى الحياة الدنيا.

لماذا؟

لكي "نعمل صالحًا"

نفس المعنى يذكره القرآن في موقع آخر بالقول: " ولو ترى إذ وُقِفوا على النار (رأوا الحقيقة يوم القيامة)."

فماذا قالوا؟

"فقالوا يا ليتنا نردّ (الى الحياة الدنيا)"

لماذا؟

لكي "لا نكذّب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين".

الجواب الإلهي حاسم: "ولو رُدّوا لعادوا لِمَا نُهُوا عنه. وإنهم لكاذبون"

قال بن علي رحمه الله: "فهمتكم". فلم يصدّقه الشعب. لماذا؟ لانه قالها يوم قيامة الحياة الدنيا. الثورة قيامة الدنيا. قالها وقت قامت الآخرة الاجتماعية والسياسية. فلم يتفهّمه أحد. لماذا؟ لأنّه، بالفعل، لو رُدَّ لعاد لِما نُهيَ عنه. ولكن عدل الله قضى.

المغزى الأليم والقاسي، ولكن العميق أيضا، هو أنّ المستبد يبلغ مرحلة ينقطع فيها عن عالم الناس فيفقد القدرة على الرؤية والسمع والفهم. وحين يرى ويسمع ويفهم يكون وقتها قد فات الأوان.

في الغالب، لا يتعلّم الإنسانُ الدرسَ إلّا خارج الحصّة.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات