خاطرة لا غير حول التشهير المفضي إلى الإشهار.

يبدو أن الحرية مثلها مثل الزيت: ليست من عاداتنا أو لعلها لا تليق بنا. ما الذي أزعج الجمهور حتى يهتاج بهذا الشكل : صورة المدرسة أم واقع المدرسة؟ صورة الغربان التي تنعق فوق الغيوم الرمادية أم واقع العصافير التي تزقزق تحت أشعة الشمس المشرقة؟

لن أتحدث عن مسلسل "الفلوجة"، قد لا يكون جديرا بالمشاهدة أو جديرا ب"بالفلوجة" كما ارتسمت المدينة في مخيالنا الحضاري إبان "ام المعارك".. لن اثير قضايا حول العمل الفني ومقاصده ووظائفه وأدواره وإن كان عليه أن يقول حقيقة الواقع أو أن يصطنع واقعا بالطريقة التي تدعو الى التفكير فيه. لن أتحدث في الفن وأصوله وصلته بالصدق، والكذب، وبالفضيلة، والرذيلة؟ لن احسم في شأن ",الفلوجة" إن كان عملا فنيا ام مجرد تلفيق لصور باهتة؟ لن اهتم لفساد سامي الفهري أو طهره... لن أبحث في مصدر القيمة الفنية وليس لي في هذا الفضاء أن اجادل في الجمالية واعرض نظرياتها وأستعرض معايير الأثر الفني رغم وجاهة هذا المبحث...

فقط، أزعم لنفسي حقا في التساؤل عن مآل هذا الانزعاج وهذا الهيجان الذي أفضى عند الجمهور وعند جزء هام من النخبة إلى دعوة السلطة التنفيذية إلى التدخل ومنع عرض المسلسل بسبب "إساءته للمدرسة والافتراء عليها ومعارضة الأخلاق الحميدة"... من حقي أن أتساءل إن أصبحت النخبة داعية رسميا إلى اعتماد المرسوم عدد 54 وتطبيقه على الأعمال الفنية؟

من حقي أن أتساءل إن كان سيترتب على هذا الانزعاج الدعوة إلى تكوين هيئة تتكفل "بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" في مجال الفن؟ هل ستفضي هذه الدعوة إلى تكوين لجان قطاعية وعلى كل من يرغب في تقديم عمل فني يتعرض فيه إلى قطاع من هذه القطاعات أن يعرض مشروعه الأولي ثم النهائي على أعضاء اللجنة حتى يحصل على ترخيص النشر والبث؟

هل ستتكفل هذه اللجنة في مجال التربية مثلا بتطهير البرامج والكتب المدرسية من الزنادقة وأقوالهم ومن الغزل والخمريات ونقد الألوهيات؟ هل تدعو النخبة إلى الرجوع إلى الوراء باسم حماية القيم والعودة إلى لجان المراقبة الأولوية التي ترخص للفنانين عرض مسرحياتهم بعد مناقشة محتوياتها و"الاتفاق" على التعديلات ثم تتكفل بحضور العروض لمراقبة مدى التزام المسرحيين بالنص والاتفاقات المقررة؟

هل يحق فعلا للقضاء من خلال وظيفته الجديدة أن يبت في قيمة العمل الفني والمسائل الجمالية؟ من تعود إليه "سلطة تحديد القيم الفنية والجمالية"؟ الجمهور؟ الأمن؟ السلطة التنفيذية؟ البرلمان؟ القضاء؟ أهل الفن؟ الفلاسفة؟

واخيرا: هل على الفن أن "يذكر واقعنا بخير؟ "

بالمناسبة أحيلكم على الكتب المدرسية الخاصة بالفلسفة حيث تعثرون على كومة من النصوص النظرية ومناخا فكريا منظما يستشكل العمل الفني ويساعد على تعقلها بعيدا عن التشنج العاطفي والوجداني.

هذا من حيث المبدأ أما من حيث الوقائع والمتداول:

• موش قلتوا ثمة أزمة قيم في المجتمع والمدرسة؟

• موش قلتوا الفساد عم كل أركان المنظومة؟

• موش قلتوا إن باعة المخدرات والمتحرشين مرابطون أمام المؤسسات التربوية؟

• موش قلتوا ثمة ظاهرة انتشار المخدرات والمسكرات والتدخين في. صفوف التلاميذ؟

• موش قلتوا ثمة تفشي لظاهرة الغيابات عن الدروس بشكل مرعب؟

• موش قلتوا ثمة تزايد لظاهرة العنف المعنوي والمادي التي تستهدف المربين وثمة اعتداءات انجرت عنها كسور وجروح خطيرة وإقامة بالمستشفى وحتى بعض الإعاقات؟

• موش قلتوا الوضع في القسم لا يطاق من جراء سلوك التلاميذ وعدم انضباطهم؟

• موش قلتوا أغلب المدرسين ياخذوا في حرابش الأعصاب ويضطرهم الوضع إلى غيابات مرضية نفسية قاهرة؟

• موش قلتوا ثمة استقالة تامة من طرف الأولياء والعائلة خلات التلامذة موش متربين؟

• موش طالبتوا بضرورة تكثيف الدوريات الأمنية أمام المؤسسات؟

• موش طالبتوا بمزيد من أعوان الحراسة في المؤسسات ومزيد من القيمين والاخصائيين النفسانيين؟

• موش طالبتوا بمراجعة النظام التأديبي باتجاه مزيد من الردع لمقاومة التسيب وصحة الرقعة؟

وفي الأخير قداش يلزمنا من "عادل العلمي" في المجتمع متاعنا حتى يستقيم يا ساخرين من عادل العلمي...

لا أحد منا ملاك خالص ولا أحد منا شيطان محض... وادعاء الطهر الكامل لا يكون إلا مريبا... ليس لأي منا أن يدعي عصمة تؤهله إلى تحديد مختلف القيم وخاصة قيمة القيم... إننا بصدد مجال التفكر الحر والحجة العقلية والتماسك الفكري المنطقي ... إنه المجال الذي تكون فيه الحرية وحدها حدا للحرية... هذا ما فهمه صعاليك قبائلنا وشعراؤنا ومفكرونا امثال أبو نواس والمعري وبشار وابو العتاهية والحلاج وابن رشد وابن طفيل وغيرهم وهذا ما استعصى علينا فهمه. لذلك نبقى دونهم لا يسعنا القاع.

ثم من سيغنم من هذا التنديد وهذا الهيجان وهذا التشهير؟

اول الرابحين هو رأس السلطة الذي سيزداد غروره وهو يرى الجمهور (ويرى جزءا هاما من النخبة) يناشده حتى يوسع سلطانه ليشمل أخلاقنا وأذواقنا وفننا وقيمنا وأفكارنا وكل جزئيات حياتنا ويحصي علينا أنفاسنا ويراقب أحلامنا ويميز لنا بين الخير والشر والجميل، والقبيح، والحق، والباطل.

ثاني الرابحين هو سامي الفهري الذي سيتمسك المعارضون المحتجون بمتابعة مسلسله إلى آخر حلقاته وسيزداد عدد أصحاب الفضول إقبالا على المشاهدة. وستتحول حملة التشهير بالمسلسل إلى حملة إشهار له.

أما عن نفسي فلا احتاج محكمة، أو رئيس، أو وزير، أو وصيا يفرض علي المتابعة من عدمها.. فبيني وبين القناة "فلسة" (رحم الله عبد العزيز العروي) تنقلني إلى عوالم مغايرة أراها لائقة بي وتلائم المتعة الفكرية والجمالية التي انشدها أو تنقلني إلى كتاب أتعلم منه ما تيسر لي فهمه.

أما عن المدرسة فكرامتها وألقها رهينان بجهد روادها والعاملين فيها والساهرين عليها والمستفيدين من خدمتها والمؤمنين برسالتها يدافعون عنها بالكد ويطورونها بالعمل ويجددون مجدها بالبذل والتضحية ويبحثون عن الارتقاء بها بالمغامرة الفكرية الطموحة والحذرة ويستنهضون الهمم من أجلها باليقظة الفكرية والإجراءات العملية الصائبة التي ترتقي بمستوى المدرسين المادي والفكري والمهني وبالسياسات الواضحة الخالية من كل ارتجال شعبوي.

أما عن الخاسرين فأترك لكم شأن تقدير من يكونون.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات