الخط المغربي التونسي في الدورة العاشرة لمعرض الجمعية التونسية لفنون الخط

انتظم معرض الخطاطين التونسيين في دورته العاشرة في أكتوبر 2022 تحت شعار "نبض الخطّ العربي روح التّراث". شارك خطاطون من أجيال ومشارب مختلفة في المعرض. تعدّدت المدارس والتوجهات، من الحروفيّة إلى اللوحة الخطيّة الكلاسيكيّة. اللافت في هذه الدورة شعارها الذي يجمع في صياغته بين النبض والروح مستعيرا دلالات الحياة ومستشرفا أفقا جديدا للتفاعل مع التراث في احتفاء بتسجيل الخط العربي ضمن قائمة التراث اللامادي للإنسانيّة لدى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة. أتى هذا الاعتراف الدوليّ بأحد أهم مآثر فنون الحضارة الإسلامية ليؤكّد القيمة الثقافيّة والجماليّة للخط العربي. ذلك الخط الذي ظلّ ولا يزال البوصلة التي يهتدي بها المبدعون والصناع والمصمّمون في شق طريق التفرّد والتميّز والشهرة. تأثّث فضاء المعرض بثلاث وسبعين لوحة خطيّة تنتمي في أساليبها وتقنياتها إلى مرجعيّات مختلفة. في نظرة أوليّة للأعمال، يتبيّن للمشاهد الحضور المحتشم لأساليب الخط المغاربيّة ممّا يؤكّد أن صلة خطاطينا بتراثهم الوطني والمغاربي في مجال فنون الخط لا تزال في حاجة للتعهّد والبناء. وهو ما يدفع إلى التساؤل عن سبب ضعف تمثيل الأساليب التونسيّة الأصيلة في الكتابة التي تعود جذورها إلى عهود ازدهار صناعة المخطوطات منذ العهد الاغلبي.

يوحي شعار الدّورة بعدّة دلالات عميقة تعبّر عن معاني يتداخل فيها الشكل بالمضمون والمبنى بالمعني، فأيّ نبض للخط العربي يمكن تحسّسه والتعبير عنه؟ أفي أشكال الحروف أم في تنضيد الكلمات والتركيب؟ أم في ما ينبجس في اللوحات من ألوان وموادّ وحياكات؟ بعيدا عن المعاني المتداولة للتراث والمختزلة غالبا في ما هو انفعال عابر ببعض التقاليد التي تكلّست وفقدت صلتها بوهج الإبداع الأصيل والفاعل، فإنّ الحديث عن "التراث" من خلال فنون الخط يقتضي وقفة وتأمّلا عميقين لما قُدّم في المعرض من أعمال.

إن استشفاف نبض الحروف في الكتابة مطلب صعب المنال إذ يقتضي من المتلقّي التسلّح بحسّ مرهف وبقدرة على التدبّر الرّصين لإدراك كنه العلاقة بين سير حركة القلم وتشكّلات الحروف في صعودها ونزولها وانعطافها، ولتذوّق ارتسامات المداد وهو ينسجُ التراكيب في انبساطاتها ومدودها. إن هذه المعاني بلغها فن الخط العربي في مختلف أساليبه المشرقيّة التي وصلت قوالبها المعروفة إلى منتهى الدقة والاتزان وغاية الإيقاع والاتّساق حتى لكأنّه يُخيّل للمشاهد أن الكتابة تتحرّك وهي ساكنة. هل للخطوط المغاربيّة نفس النبض وهل تتقيّد أساليبها بقواعد مضبوطة وموازين معلومة؟ الإجابة على هذا التساؤل تتطلّب إعادة تقييم ومراجعة لما قُدّم في معرض الجمعية التونسيّة لفنون الخط في دورته العاشرة من أعمال.

تشكّلت ملامح الخطوط التونسيّة خلال تاريخ ممتدّ بدأ مع المدرسة القيروانيّة التي ترجع إليها نفائس المصاحف المعروفة، مثل مصحف الرق الأزرق ومصحف الحاضنة ثم تواصل التجويد والتحسين مع الخطوط النسخيّة التي ظهرت في العهد الحفصي. والمتأمّل في خصائص المخطوطات التونسيّة يلاحظ وجود أبعاد جماليّة مميّزة ترجع في أصلها إلى ما تتميّز به الخطوط المغاربيّة عموما من "تعبيريّة" على مستوى "التباين اللوني"، ثم "الحركة العفويّة للتعريقات". كما أن نبض الكتابة يرتبط أحيانا بالمنزع الصّوفي المميّز لبعض الخطاطين المغاربة.

يُعتبر الخطاط سالم منجي البراهمي، وهو مدرّس بقسم تقنيات فنون التراث بالمعهد العالي لأصول الدين بتونس، من أبرز من أهتمّ بأساليب الخط المغربي تدريسا وإنتاجا فلقد دأب على تنظيم معارضه الشخصيّة منذ سنة 2002، شارك في المعرض بثلاث لوحات مكتوبة بالخط التونسي (أنظر الصورة المصاحبة) وهو ما يستدعي استثارة السؤال حول مدى استثماره للخصائص التعبيريّة المميّزة للخط المغربي التونسي في تضمين لوحاته نبض الحروف واتساق حركاتها مع روح النصّ ومعانيه. يتميّز أسلوب البراهمي بوجود تجانس بين أشكال الحروف والأشكال الهندسيّة البسيطة، ويمكن اعتبار ذلك من نتائج عمليّات التحقيق التي أجراها الخطاط للعديد من المخطوطات التونسيّة وخاصّة تلك التي يرجع تاريخها إلى العهد الحفصي. يقوم تركيب الحروف المتّصلة والمنفصلة في أعمال الخطاط على مبدإ "التأليف" ضمن الحيّز، ومن ثمّة تشاكلها مع الفراغات المتولّدة في ما بينها، ويتبيّن لنا أن هذا الأسلوب استقاه الخطاط من دراسته الطويلة والمتأنية للمخطوطات التونسيّة والمغاربيّة عموما مثل مخطوط دلائل الخيرات وغيره من كتب الحديث والفقه المالكي المستنسخة بتونس وبالمغرب. يتّبع الخطاط سلم منجي براهمي نظاما مدروسا للتأليف يقوم على تركيب الحروف بما يحقّق استرسال حركة سير القلم التي تتواصل عند إسبال الحرف في حركة عفويّة راجعة تتقابل مع تعاريق النون والراء، قلّ أن نجد لها نظيرا في الخطوط المشرقيّة. (أنظر لوحته المميّزة التي كتب فيها الآية الرابعة من سورة القلم)، حيث تتواتر حركات التّعريق بعفويّة وتلقائيّة نابعة من سجيّة الخطاط وانغماسه العميق في دلالات المدح الربّاني للمصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام. إنها تعبيرات قلب نابض بالعشق تتجلّى مواجده في نبض الحروف وفي نسيجها الإيقاعيّ البديع.

وتتبدّى القيمة التعبيريّة لمختلف حركات الخط من انكباب واستلقاء وانحناء، عندما يستعمل الخطاط المنجي البراهمي الإرسال في نهايات الحروف التي تحتمل التعريق، في حركة للقلم تتماشى ومادّة الذهب وقابليّة ارتسامه على المحمل دون انحباس أو توقّف. وممّا يزيد من درجة التألّق اللوني والضوئي للحرف ويعبّر عن نبضه الإيقاعي المتناسق، التقابل الصّبغي الذي تقصّده الخطاط عبر اختياراته التي يسترجع من خلالها تقليدا تونسيّا أصيلا في كتابة المصاحف بالذهب وعلى محمل جلديّ مصبوغ يمنح الكتابة جلاء وإضاءة تتلاءم مع ما يرمز إليه كلام الله من نورانيّة ووضوح وبيان.

تتخطّى العلاقة مع المخطوطة في تجربة الأستاذ المنجي البراهمي، حدود الإدراك الحسيّ لتغوص في حدوسات الانفعال العميق بنبض الحرف وحركته المشكّلة لخطوط الكلمة المسطورة والمعاني المسكونة، ينغمس الخطاط في بنية النص المخطوط دون أن يفقد إحساسه بروح المعاني. وينفعل بحركة الحرف مستكشفا أثر القلم وتلاوين المداد ما بين صعود وانحدار وما بين انبساط وتقوير حتى لكأنّه يسترجع بتأمّلاته وحدوساته الحوار القائم بين المد والرجع، بين البسط والتقوير.

يدلّ تفرّد الأسلوب التّعبيريّ في اللوحات المكتوبة بالخط المغربي إلى تأثّر بعض الخطاطين بالمنزع الصّوفي الذي نلمس أثره في العديد من المخطوطات المغاربيّة. يبرز ذلك في التّعابير اللونيّة والتراكيب الخطيّة وفي اختيار النّصوص التي تشعّ منها روحانيّة عامرة بالمحبّة تجاه سيّدنا محمّد صلّىى الله عليه وسلّم، لذلك نلاحظ تتميّز أعمال البراهمي باستقلاليّة أسلوبها وفرادة خياراتها على مستوى الشكل والمضمون. فعلى مستوى التركيب، تبدو أعماله مفعمة برغبة في الرّبط بين الحروف وفق نسق تعبيري، يتحوّل فيه التّركيب الخطّي إلى مناجاة روحيّة وطقس تعبّدي تتماهى فيه الذات مع النصّ، فيغدو التشكيل بالحروف التحاما رمزيا بالمعاني الإيمانيّة لصلة العبد بخالقه أو لصلة المحبّ بمحبوبه وخاصّة عند كتابة الآية الكريمة: "وإنك لعلى خلق عظيم".


…

سالم منجي براهمي، "وإنك لعلى خلق عظيم" سورة القلم الآية 4، ذهب على الرقّ المدبوغ بمادّة طبيعيّة، قياس: 30.5×39.5 صم . إنتاج 1443/ 2021، مجموعة خاصّة بالخطّاط.

هل حقّق حضور بعض التجارب المهتمّة بالخطوط المغاربيّة البعض من أهداف المعرض في التعريف بأساليب وأنماط الخط التونسي وفي تعزيز مكانته وإبراز دوره في الارتقاء بالذوق وتأصيل الإبداع في مختلف الفنون والصنائع؟ نعتقد أن تدعيم صلة المبدعين الشبان بفنون الخط المغربي التونسي وتعبيراته الجمالية ووظائفه التصميميّة التي أصبحت تشكّل جزءا مهمّا من الأنشطة الاقتصاديّة والتواصليّة، أصبح ضرورة ملحّة في ظل عولمة جارفة تنتهك الخصوصيّة وتعلّب الأذواق. لذلك نرى أن جهدا كبيرا ينتظر القائمين على الجمعيّة للحفاظ على هذا التراث الهامّ ولاستثمار ما سيترتّب عن تسجيل الخط العربي ضمن قائمة التراث اللامادي للإنسانيّة لدى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة، الاستثمار الأمثل الذي يسهم في إشعاع الثقافة الوطنيّة ويدعّم انتماءها العربي والمغاربي.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات