موسم الهجرة إلى الشمال : شبيبة سائحة من مدنين إلى باريس:

في هذا المنشور سأروي لكم جزء من رحلة ابن أخي نجيب وإبن خالي عبد الرزاق من مدنين إلى أوروبا وهي رحلة كللت بالنجاح والحمد الله في وقت قياسي وهما الآن في النمسا ومن المفروض أن يتوجها إلى باريس في غضون الساعات القادمة وقد سلك المهاجران بعد دخول تركيا ما يعرف بطريق البلقان القديم الذي كان يسلكه " المجاهدون " العرب والأفغان عبر تركيا إلى دول البلقان خلال فترة حرب البلقان الثالثة وما تبعها من حرب البوسنة والهرسك والتي انتهت بتقسيم يوغزلافيا إلى ست دول ودارت رحاها بين 1991 و 2001.

انطلق المهاجران من مدنين إلى تونس العاصمة أقاما ليلة في نزل وغادرا مطار تونس قرطاج إلى مطار إسطنبول الخميس صباحا وقد اقتطع كل منهما تذكرة يقدر ثمنها ب 700 دولار. في تركيا قام المهاجران بحجز غرفة لشخصين في فندق ب 70 أورو لليلة الواحدة وهناك قضيا ليلتين وقاما بالحجز من مطار اسطمبول إلى مطار بلغراد الصربي بمبلغ مالي قدره 700 دولار وغادرا يوم السبت 15 أكتوبر الساعة الثامنة وربع صباحا نحو بلغراد.

يشكل الخروج من مطار بلغراد عقبة كأداء أمام المهاجرين حيث يتم في بعض الأحيان منع التونسيين من الدخول إلى صربيا وخاصة منهم الذين لم يقوموا بحجز مسبق في أحد النزل. عند نزولهما لمطار بلغراد قام أمن المطار بتحويل قريبيا مع بقية المسافرين إلى مركز وتفتيشهما وإجراء تحقيق معهما وتم إطلاق سراح عبد الرزاق عند الساعة 13 ونجيب عند الساعة 17. بعد إطلاق سراحهما توجها عبر التاكسي إلى الفندق وهناك قضيا ليلة واحدة ارتاحا فيها واتصلا بالمهرب الذي سيتولى هو وجماعته إتمام بقية العملية بمقابل مادي طبعا والذي وقع التنسيق معه قبل مدة منذ أن كانا في مدنين.

دون الغوص في تفاصيل هجرة قريبي التي جرت مؤخرا يتنقل المهاجرون غالبا من بلغراد إلى منطقة سوبوتيسا الواقعة على الحدود الصربية المجرية عبر الحافلة، في سوبوتيسا تُقتسم مناطق النفوذ بين جنسيات مختلفة، الأتراك والصرب والأفغان والعرب وحتى العرب أنفسهم منقسمون وخاصة المغاربة حيث روى لي أحد أقاربي الذي عبر منذ شهر عن تبادل إطلاق ناري بين عناصر يشتغلون عند مهربين مغربيين هما الكزاوي ينحدر من مدينة الدار البيضاء المغربية وهو المهرب الأشهر ومغربي أخر يدعى التطواني أصيل مدينة تطوان المغربية أيضا كما دخل على الخط مؤخرا مهرب أصيل ولاية مدنين وهو من قام بإيصال عبد الرزاق ونجيب إلى النمسا.

يذهب المهاجرون غالبا إلى فندقين يتواجد فيهما المهربون وهما فندق Gat Rooms أو فندق Stefan Room حيث يؤكد أحد الذين سجلت معهم أن هذا النزل الأخير عند تواجده فيه كان يحتوي على مئات التونسيين والعرب ممن كانوا ينوون الهجرة إلى أوروبا.

في نزل ستفان روم يجد المهاجر أربعة أشخاص يشتغلون مع الكزاوي أو غيره من المهربين ويمكنونه من بيت في النزل ب 20 أورو يقضي فيها ليلة واحدة ومن الغد يحملونه في تاكسي إلى مغازة كبيرة على ملك امرأة صربية، ولكن تحت حماية رجال الكزاوي لاقتناء بعض مستلزمات الرحلة :خيمة وبعض المأكولات وsac de couchage.

يساعد رجال المهرب المهاجر على تصريف جميع أمواله عبر تقنية ويسترن يونيون وينقلونه إلى غابة كبيرة على حدود المجر. يضع المهربون المهاجرين بعيدا عن الغابة بثلاث كيلومترات يكملونها سيرا على الأقدام.

في الغابة يتواجد ألاف البشر الذين يريدون الهجرة عائلات وأفراد من مختلف الجنسيات والفئات العمرية. في الغابة يكون جماعة المهرب المتفق معه في استقبالهم ويمكنونهم من مكان لنصب خيمتهم ثم يطلبون منهم الذهاب لدفع الأموال في خيمة كبيرة يحرسها مجندون بالسلاح ويشتغل داخلها محاسبون أغلبهم من حاملي الجنسية السورية.

هناك صيغتان لدفع الأموال أو " التشييك " فمن يقوم بتسليم الأموال في الخيمة مباشرة يدفع مبلغ 3500 أورو ومن يحولها له شخص أخر عن بعد يقوم بدفع 3800 أورو. بعد مرحلة التشييك يتم إضافة إسم المهاجر إلى القائمة ويستقر هناك في النقطة ينتظر دوره. والنقاط هي مخيمات قديمة للاجئين السوريين الذي هاجروا عبر تركيا إلى أوروبا بعد 2011 .

يقيم المهاجرون ويحصلون على أرقام بالترتيب حتى يصل دورهم في القائمة ويقع تقسيمهم إلى مجموعات تتكون كل واحدة من عشرين شخصا يقومون باجتياز الحدود إلى المجر بطريقتين. الطريقة أولى بواسطة عبور نهر صغير عبر قارب كهربائي يتسع لعشرة أشخاص ويعبر النهر في دقيقتين لأن عرض النهر لا يتجاوز المائة متر.

بالإضافة إلى هذا المعبر الذي يكون سعره باهضا ولكنه الأكثر أمانا وضمانا وسرعة هناك معبر أخر أكثر خطرا ومراقبة من الجيش المجري وأقل ثمنا ويتم العبور من خلاله عبر جسرين تفصلهما بعض الأمتار ويقع عبورهما بواسطة سلمين وتستوجب عملية عبور السلمين حيطة وحذرا شديدين لأن لمس أي جزء من الأسلاك الواقعة قرب السلم يساهم في تنبيه الجيش المجري إلى عملية اجتياز الحدود وبالتالي يعود العابرون إلى نقطة الصفر رغم أن رجال الكزاوي أو غيره من المهربين يأمنون للمهاجرين حق إعادة الكرّة كلما وقع إيقافهم وإعادتهم إلى الأراضي الصربية. من جهة أخرى يقوم الجيش المجري بالاعتداء بالعنف الشديد والضرب المبرح والتجريد من الملابس على المهاجرين الذين يقع القبض عليهم ويجبرهم على السير حفاة على الأشواك والحجارة والمكوث تحت الشمس لساعات طويلة.

بعد العبور بإحدى الطريقتين يقوم المهاجر بالسير على الأقدام داخل المجر حتى الوصول إلى ما يسميه المهاجرون " الخط العسكري" وهو عبارة عن خط دفاع رملي مرتفع تعبر فوقه بشكل دوري سيارات عسكرية مجرية وعند العبور يجد المهاجرون وعلى بعد كلم واحد ما يعرف بنقطة التحميل وتكون عموما في قريتي دافود وسنبور( يسميها المهاجرون سنبل ) وهي تقع في سهل بكس كسكون الذي دارت فيه إحدى أكبر معارك الحرب العالمية الثانية.

في هذه النقطة يجد المهاجر المهربين في انتظاره على متن سيارات كبيرة تخصص عادة لنقل البضائع ويمتطيها عدد كبير من المهاجرين يتجاوز عددهم في بعض الأحيان ال 50 شخصا وسواق هاته السيارات هم من المجريون الذين يوظفهم المهرب والذين يعرفون الطرقات والمسالك وتمركز أعوان الحراسة والجيش جيدا والأقرب أنهم يشتغلون معهم ويعقدون معهم الصفقات ويسهلون لهم عمليات العبور بمقابل.

وبعد رحلة طويلة وشاقة يتم إنزال المهاجرين على بعد أمتار قليلة من الحدود النمساوية وهناك يسلمون أنفسهم للجيش النمساوي الذي يعطيهم الماء والمأكولات ويضعهم في مخيمات ثم يمكنهم من تراخيص تمكنهم من التحرك داخل الأراضي النمساوية ومدة هذه التراخيص أسبوع واحد فيعبر المهاجر إلى سويسرا ثم أي طريق يريد والذي يكون غالبا فرنسا.

يعبر المهاجر من سوبتيسا إلى المجر وقد ترك جواز سفره وكل وثائقه الرسمية عند المهرب لكي لا يقع التعرف عليه من قبل الجيش المجري ويقوم المهرب بإرسال الجواز إلى المهاجر بعد مدة بعد أن يحول له مبلغ مالي يقدر ب 300 أورو ويقوم بتنزيل إسمه الثلاثي على صفحته الرسمية على الفايس بوك أو التيكتوك.

هكذا بصفة عامة تكون الرحلات التي يتابعها الجمهور عبر شبكات التواصل الإجتماعي والتي يلعب فيها الحظ والطقس دورا كبيرا والتي تتراوح مدتها بين شهر ونصف وأسبوع ولعل رحلة عبد الرزاق ونجيب هي الأقصر والأكثر أمانا من حسن الحظ ويبلغ ثمن الرحلة للشخص الواحد 20 الف دينار تقريبا.... عموما نجيب وعبد الرزاق حاولا السنة الفارطة عبر البحر، ولكن خفر السواحل قام بإيقافهما بعد الخروج بكيلومترات وخسر كل منهما مبلغ خمسة آلاف دينار تقريبا، ولكن ها قد وفقا هذه السنة وتلك هي الحياة مغامرات ونجاحات وفشل ومن لا يجرب لا ينجح. هما الآن في النمسا في إتجاه سويسرا ثم فرنسا وسيكفل بهما أقاربنا الذين يعدون بالعشرات هناك ويوفرون لهما الاستقبال والايواء والشغل خاصة وأنهما يحملان شهادة في plomberie ويملكان رخص سياقة فبالتوفيق لهما.

في مدنين وتطاوين هاجر هذه السنة على الأقل 40 ألف شخص عبر هذا الخط ومازال البعض يستعد للمغادرة حيث أقفرت مدن بأكملها أفرغت من شبابها وبقي فيها فقط النساء والشيوخ والأطفال في مشهد يذكرنا بوضعية المدن بعد مشاركة الجيوش في الحروب قديما... طبعا لا تمر هذه الرحلات دوما بسلام ففي بداية شهر سبتمبر الفارط توفي أربع شبان أصيلي ولاية تطاوين في حادث سير عندما أنقلبت السيارة التي تقلهم في نهر كما العثور على جثة شاب أصيل القيروان منذ أسابيع وقد توفي من شدة البرد في غابة في بلغاريا كما ذكر لي أحد المهاجرين الذين سجلت معهم أن شابا لبنانيا قد لقي حتفه بعد أن سقط في حفرة سحيقة أثناء السير....

*قمت بتسجيل عشرات الشهادات لمهاجرين وصلوا إلى أوروبا عبر هذا الخط وكتبت مقالا أكاديميا كنت سأشارك به في ندوة علمية دولية مع مؤسسة جامعية آخر هذا الشهر على أن ينشر لاحقا في كتاب ولكن تأجلت الندوة لأسباب تنظيمية تتعلق بلجنة التنظيم.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات