في ركاكة أدوات الدكتاتورية التونسية

ينطوي إعلان وزارة الداخلية التونسية وجود تهديدات تستهدف حياة رئيس الجمهورية قيس سعيّد على ركاكةٍ في صياغة الديكتاتورية بنسختها السعيدية، فاستخدام مثل هذه الأدوات في مسار تكريس الديكتاتورية بات مملاً، ومن العهود القديمة، من حيث إنه لا ينطوي على الإثارة الكافية التي تجعله مستساغاً ومولّداً لديناميكياتٍ سياقيةٍ تشكّل أدوات تشغيلية قادرة على السير بمخطط قيس سعيّد في وسط أمواج تونس الهادرة.

منذ بداية انقلابه على الديمقراطية في تونس، تبيّن أنّ لدى الرجل رغبات هائلة في الاستحواذ على السلطة، لكنّه لا يملك الوسائل المناسبة لتحقيق طموحاته، إذ طالما احتاجت الديكتاتوريات مناخاتٍ مناسبةً وظروفاً مؤاتية، كأن يأتي القائد من رحم مرحلة عدم استقرار سياسي، أو تكون البلاد معرّضة لاعتداء خارجي، أو وجود مناخٍ مؤيد لولادة ديكتاتور بسبب الانهيار العام في البلاد (حالة بوتين في نهاية التسعينيات(.

كما أنّ سعيّد لم يمتلك نهجاً ديكتاتورياً واضحاً، وإنْ كانت لديه منهجية على هذا الصعيد، بدأت بحلّ البرلمان ومحاولات السيطرة على القضاء والدعوة إلى صياغة دستور جديد، لكنّه في محاولته تحقيق الطموح الديكتاتوري، راح يستعير ممارسات من أنماط ديكتاتورية عديدة، السورية والمصرية، وحتى الليبية، الأمر الذي نتج منه خليط غير متماسك القوام من الممارسات السلطوية، وبدون هوية واضحة. بيد أنّ إعلان وزارة الداخلية وجود تهديدات تمسّ مؤسسة الرئاسة يمكن اعتباره نقلة خطيرة في مسار الديكتاتورية التونسية، إذ تمهّد للانتقال إلى القمع الشامل، وإيجاد مبرّرات كافية لتبرير التوحش السلطوي الذي قد تكون تونس مقبلة عليه في مقبل الأيام. وهنا يجب التنويه إلى مسألة مهمة تعلمناها من خبرتنا بسلوك الديكتاتوريات التي يشكّل تاريخها الجزء الأكبر من أعمار أجيالنا العربية، أنّ حافظ الأسد وصدّام حسين ومعمر القذافي، عتاة الطغاة، تعرّضوا مرات عديدة لمحاولات اغتيال وانقلابات، ولم يُعلن، ولا مرّة واحدة، عنها، وكان تداولها يجري سراً وبالخفاء، لقناعة هؤلاء أن الإعلان عن هذه الحوادث قد يخدِش ثقة الناس بقوّتهم، أو قد يدفعهم إلى طرح سؤال مهم، أنه طالما أن هؤلاء القادة وصلوا إلى السلطة بنسبة 99,99% بإجماع شعبي كاسح، فلا يمكن لأقل من واحد من 1% أن يقدم على فعلٍ كهذا، علماً أنه في افتراض الناس أنّ هذا الأقل من 1% يقع تحت المراقبة الدائمة لأجهزة الأمن العتيدة؟

يؤشّر وضع تونس على أبواب مرحلة القمع التي ينذر بها إعلان وزارة الداخلية على طبيعة التحدّيات التي يواجهها سعيّد في مساره الديكتاتوري، والتي كان من علاماتها إضراب القضاة واتحاد الشغل ورفض الأحزاب إجراءاته، وهذه معوّقات لن يستطيع تفكيكها ما لم يقم بنقلة نوعية وكبيرة، ترتكز على القمع وتكميم الأفواه.

المشكلة التي تواجه سعيّد في تكريس الديكتاتورية، أنّه ليس رئيس نظام، فهو ليس رئيس حزبٍ يريد أن يخلد في السلطة، وبالتالي يستخدم استراتيجيات بعيدة المدى على المستويات الاجتماعية والأمنية والاقتصادية، هو شخصٌ مستعجلٌ يريد تحقيق السلطوية في زمن قصير ليستمتع بالحكم المطلق، كما أن ليس له روافع اجتماعية وبيئات حاضنة، بدليل أنه دخل في خصومةٍ مع مختلف التيارات السياسية في تونس.

تاريخياً، أسّست أغلب الديكتاتوريات سلطويتها على تحوّلات اقتصادية واجتماعية قامت بها، كالاشتراكية، أو توزيع الأراضي، وصنعت هذه الإجراءات تحوّلاتٍ في البنى الاجتماعية، وأعادت تشكيل الخريطة الاجتماعية. والسؤال هنا: ما التحوّلات التي صنعها قيس سعيّد حتى يطالب بمساحاتٍ سلطوية مقابلها؟ ما يقوم به ليس له سوى معنى واحد، إعادة توزيع السلطة، بحيث تتفوق كفّته على كفّة الجميع"التشريعية والقضائية" والمجتمع المدني والصحافة. بل تتحوّل هذه إلى روافد تصبّ في نهر قوته. وهذا يقودنا إلى فهم نظرية سعيّد في الحكم، والتي يبدو أنها لا تنطلق من أن الدولة التونسية قديمة؛ وأنّ المجتمع التونسي منظّم، بل أنّه أمام حالة "هوبزية" يريد المجتمع الطبيعي تشكيلها من البداية، وبعقد اجتماعي جديد، يقوم على أنّ السلطة حقّ له يقايضها بما تقدّمه الدولة من خدمات كالأمن والكهرباء والخبز، أي استثمار في التراكم الذي صنعته الدولة التونسية منذ تأسيسها ونسبها له، تماما كما يفعل الطغاة، ويعتبرون أن ما تقوم به مؤسّسات الدولة من حماية وأمن وخدمات هي إنجازات السلطة ومكرمات للشعوب.

أثرت الأزمات الاقتصادية والبطالة والعالم المهدّد بالجوع، وأزمات نقص الوقود نتيجة الحرب الأوكرانية، وقبلها جائحة كورونا، في تفكير سعيّد، وأنتجت لديه خلطاً في تصورات الحكم، إذ لا بد أنه حينما ينظر إلى الشارع، ويرى أنّ الناس ما زالوا يأكلون وعلى قيد الحياة فهو بفضله، وبالتالي، يحق له المطالبة بصلاحياتٍ أكثر من العادة. لكن ما هي المؤشّرات التي يعتمد عليها قيس سعيّد في قياس فاعليته الحوكمية؟ الغريب أنّ تونس في السنوات الثلاث الأخيرة باتت أكبر مصدّر للشباب المهاجرين إلى أوروبا!

مؤكّد أن سعيّد لن يستطيع إنعاش مساره الديكتاتوري بأدوات ركيكة، مثل التي يستخدمها الآن. ومؤكّد أنّ الشعب التونسي الذي عاش أطول تجربة ديمقراطية بين الشعوب العربية، ولديه الأدوات الكافية للحفاظ على ديمقراطيته، من أحزاب ونقابات ومجتمع مدني، لن يتيح الفرصة لهذه الركاكة لتتحوّل إلى وقائع سياسية راسخة.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات