شعب النخبة وشعب الغوغاء وصراع على الدولة

خواطر على هامش تخميرة 03 أكتوبر:

لست من المعارضين الذين يركنون إلى إنكار حجم الاستجابة الشعبية الواسعة لدعوات التظاهر المساندة لانقلاب قيس سعيّد، فالإنكار ليس الحلّ، و الحقيقة التي ينبغي التعامل معها هي "تجمّع" فئات و شرائح واسعة من عامّة الشعب و خاصته على مناشدة الرئيس المضي قدما في خياراته.

هؤلاء شعبي، و لن أقع في منطق التخوين كما نطقت بذلك لافتاتهم، و لكنّني أستطيع من خلال استعراض عدد وفير من صور المتظاهرين و فيديووات رقصهم على "المزود" أن أصنّفهم سياسيا و معرفيا و أخلاقيا، تصنيفا من منطلق التمايز و الاختلاف، لا من منطلق التحقير و الإقصاء.

* سياسيا، هذا جمهور التجمّع و موالاته من شقوق اليسار الانتهازي الذي كان متغلغلا في مفاصل الدولة مصليا مع علي و آكلا على موائد معاوية، فلما جاءت النهضة و حكمت الترويكا، و أرادت وضع كوادرها و مناضليها في المناصب القيادية، تعالت صرخاته، فوجوده و مكاسبه على المحكّ.

هذا الجمهور التجمعي_اليساري_الانتهازي، لم ير في الثورة و المسار الديموقراطي سوى الخسارة و الخراب، لذلك ظلّ مناوئا و حاقدا غير قادر على تقديم مصلحة البلد على مصلحته الضيقة، تراه اليوم يتصدّى و يقود موجة الشعبوية ، تستطيع أن تميّزه من خلال شعار "يا غنوشي يا سفاح يا قتال الأرواح".

مشكلة هذا الجمهور هي النهضة و أجندته هي تصفية النهضة مهما كانت الوسيلة، و لو كانت استعادة محرقة التسعينات، و هي أجندا مغايرة لأجندا أنصار سعيد الأصليين الذين يناوئون كل الطبقة السياسية و كل المنظومة المتدخلة في الحكم من أحزاب سلطة و معارضة و نقابات و إعلام و غيرها…

* معرفيّا، هذا الجمهور في أغلبه من محدودي التحصيل المعرفي، من أصحاب المهن و الصّناع و عمال المصانع و سائقي التاكسي و بائعي الكسكروت و التّجار الصغار.

و رغم كل الاحترام لصاحب كل مهنة شريفة، إلاّ أنَ القاسم المشترك بين هؤلاء هو محدودية التحصيل العلمي الذي انتج محدودية الوعي السياسي و عدم إدراك أهمية قيم الدستور و الفصل بين السلط و حقوق الإنسان الفردية و العامة،و لا تقدير مفهوم المواطنة…

جمهور يقبل معاملته من قبل الحاكم كرعايا لا كمواطنين، و يختزل علاقته بالدولة في توفير حاجياته الدنيا المادية من مأكل و مسكن و صحة و نقل و تعليم، ضاربا عرض الحائط بقيمتي الحرية و الكرامة، فلا مشكل لديه في مناداة الشرطي بالحاكم و التزلف عنده في تحصيل حقوقه مغموسة بالمهانة و الترهيب.

هذا لا يعني عدم وجود خاصة متعلمة، حاصلة على شهائد جامعية عليا، و مطلعة على الفلسفة و دروس الحداثة السياسية، لكنها باعت كل المبادئ دون أن يرفّ لها جفن ، لأنها إمّا ضمن الشريحة المتسيسة المعادية لوجود النهضة، و إما أنها تفتقد الحدّ الأدنى من التسيس، و تنحصر رؤيتها للوجود في النزعات الاستهلاكية و تلحق بالتالي بالفئة الأولى، و هي أكبر دليل على فشل المنظومة التربوية التونسية.

* أخلاقيا،هذا الجمهور الشعبي، باستعداده لضرب قيم الحداثة السياسية من دستور و ديمقراطية و حريات و قانون، هو مستعدّ لأكثر من ذلك على المستوى الأخلاقي، هو مستعدّ لضرب كل معاني النضال و الصمود و التضحية، و هو مستعدّ لإلقاء خصومه في السجون و تلفيق التهم و توظيف المحاكمات العسكرية للتخلص منهم، اذا كان ذلك سيعيد له الانفراد بمزايا الدولة و يضمن له التمتع بفوائدها بعيدا عن التعايش و الشراكة و المساواة أمام القانون.

لا ينبغي أن يفهم من هذا التحليل أنه تشويه للخصوم و لكنه توصيف ل"الشعب" الذي لا ينبغي إنكاره بحال، و لكن ينبغي عدم السماح له بفرض مشروعه على الدولة،لأننا لا نستثمر في التعليم كي يقود هذا "الشعب" الدولة نحو المستقبل.

هذا "الشعب " موجود و راكن في كل الأمم، حتى المتقدمة منها، لكنّه مسيّج بشعب النخب.

رأينا هذا الشعب في الولايات المتحدة الأمريكية مع ترامب و رأينا مآلاته حينما اقتحم في همجية متوحشة مبنى الكابيتول، هو نفس الشعب المنفلت من أي مبادئ، من كل قانون سوي قانون المصلحة المادية الفردية.

ما حصل في أمريكا، هو أن أمريكا المتنورة، شعب النخب المتعلمة قد لفظت تلك الموجة الشعبوية و أعادتها إلى حجمها و موقعها الطبيعي، بعيدا عن التفكير للدولة و تصوّر نموذجها، فأنقذ شعب النخب المتنورة البلد من الذهاب لمجهول ترامب.

و عليه، فالمعركة هي نفسها بين "شعب" الجهل المعرفي و السياسي و الفقر الأخلاقي و بين "شعب" النخب المتنوّرة الواعية المتسيسة المؤمنة بحتمية التقدم في مسار الحداثة السياسية رغم حجم الصعوبات و العوائق، و هي معركة المستقبل، فإما أن تنجح هذه النخب في هذه المعركة و تستعيد قيادة الدولة كما يحدث في العالم المتقدم، و إما أن تواصل كبوتها و تخفق في التصدي لشعب الحرافيش، و تسمح لهم بافتكاك الدولة، كما هو حال الدول المتخلّفة و في مقدمتها الدول العربية.

و ذلك هو مكمن الفارق بين تقدم الشعوب و تخلفها، فاختر مكانك و اعرف أين تضع نفسك و أي مستقبل تريد.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Nour Mahmoud
05/10/2021 18:05
يا فدوى تحليلك ممتاز يدل على خبرة واسعة في معرفة المجتمع التونسي .أنت كاتبة مثقفة ومحايدة ومتحررة وتمثلين النخبة النيرة.