إلى مالك الصغيري، يومَ فاجعتي فيه.

صرتُ أكره كتابة مثل هذه النّصوص. صرت أمقتُ كتابة هذه المراثي. إلى متى أكتفي بخط كلماتٍ مقهورة هاهنا، عاجزًا عن ردّ الموت على من أحببتهم دون حدٍّ، تقريبا. واحدٌ آخر منهم اليوم يرحلُ. مالك. صرتُ أكره أن أكتفي من الوداع بنص أعود فيه بالذكرى لأُوفِي بعض الحقّ لمن سعدتُ بلقائهم. حتّى أنتَ يا مالك ترحلُ، أنت أيضًا ترحلُ.

كيف لابتسامتك تلك أن ترحل، وكيف لهدوئك الخارق أن يختفيَ، وكيف للُطفك أن ينزاح عن هذا العالم. عندما عرفتك شخصيا بعد أن سمعتُ اسمك يتردّد على ألسنة محدثيَّ عنك كنتَ أكبر مما صوّروا، وأجمل ممّا وصفوا، وأعلى ممّا قالوا. هناك، في ذلك الرّكن من دار الشباب ببنزرت، حيث كنتم تعقدون واحدا من أكبر لقاءت 'جيل جديد' وأكثرها عنْفوانا بعد الثورة، لقيتك أوّل مرّة. سارعتَ إلى إلقاء السلام، وابتسمتَ قائلا "سوف نتأخر قليلا. الشباب تعبون ولم يرتاحوا إلا قليلاً".

كنتم قد تكرّمتم بدعوتي، وألقيتُ على مسامعكم ما ألقيتُ، وكان جهاد إلى جانبي يحثّني على الإنتهاء، ثم يدير النقاش، ويلقي الأسئلة ويعيد تدوير الأجوبة ليطلق جولات أخرى من الجدل. كنتُم، ولا تزالون، جيل جدل ونقد بامتياز. وكنتَ هناك. كنتَ في القاعة إمّا جالسًا تتأمّل رفيقاتك-رفاقك بابتسامتك الباذخة، أو تُنهي بعض الأمر مع منْ حلّ منهم متأخّرا، أو واقفًا، بقامتك الفارهة وأنت تُلقي بعض جمل لتفتح مسارب أخرى للحوار.

وكم فرحتَ، كطفل، عندما قلتُ لك إنّي قد أتيتك ورفيقاتك-رفاقَك بهدية: نسخةً لكل واحد(ة) من أحد كتبي. تقبلت الهدية، بحيائك الذي صار بعدُ معهودا لديّ، وتمتمتَ " لأوّل مرّة يحدث هذا معنا". شكرتني وكنت أنت الحَقِيقَ بالشّكر، لأنك ورفيقاتك ورفاقك، من عُلُوِّ ما بلَغْتُم من الدّفع بالممارسة السياسية إلى ما يراه الجيل الجديد جديرا بثورته، كنتم لا ترفضون أن تلتفتوا إلى الوراء، لتأخذوا بأيادي من لا يزال على قيد الثورة من الجيل القديم.

كم كانت تلك الفكرة التي انطبعت في ذهني حينها تَحْيَا من جديد كلّما التقيتك بعد لقائنا الأول، في أروقة الإذاعة وكنتَ فيها تمسك ببرنامج في الثقافية، أو في حجرة الاستقبال في قناة 'تي أن أن' قبل أن ندخل الأستديو إلى إحدى حلقات برنامج "جدل"، أو في تلك المقاهي التي جمعتنا مرّات ومرّات ونحن نقلّب الرأي ونحتفي بالنّقاش. "مهمٌّ. لا بدَّ أن نعمّق هذا": كانت تلك واحدة من لازمات حديثك معي ونحن نطوّح في تلافيف ماضي الحركة الطلابية الذي كنتَ تقول لي عنه إنه ما لم يكتب فإن أجيال مناضليها سوف يظلون شبه تائهين لنقص في استخلاص دروس تاريخها، أو وأنا أعطيك وجهة نظري في بعض ما مرّت به الفكرة-المشروع اليساري العظيم المتضائل، أو أحدّثك عمَّا أرى في الحركات الاجتماعية، وضرورة الرّبط بينها وبين الأكاديميا.

هي تلك، الحركاتُ الاجتماعية التي صارت رافعة النضال في بلد باتت ثورته تترنّح. في تلك المناقشة الليلية، في سوسة، على هامش مؤتمر الحركات الاجتماعية، كان لنا نقاش آخر من نقاشاتنا حول الحركات الاجتماعية. وكنا نكاد نتّفق على أنها أملٌ، بمَوْجَاتها المتعاقبة. كانت اندفاعاتها تُشعل التماعات الفرح في عينيك، وكانت انكساراتها تقدح الأفكار لديْك. سوف أذكر، لسنوات مديدة أخرى، ذلك المهرجان النضالي الرائع الذي أقامته "مانيش مسامح" في قلب شارع الثورة بالعاصمة، واندفعتْ فيه إلى مبلغ غير مسبوق في تحدّي ترتيبات الحكم الجديد.

كم كانت تلك اللحظات رائعةً وأنا ألتحق بالمسيرة بعد ساعات قليلة من حلولي بتونس بعد سفرة طويلة قادمًا من تايوان، وكم كان مُبْهِجًا منظرُك ورفيقاتك ورفاقك وأنتم ترفعون الصوت إلى عنان السّماء "مانيش مسامح… ما يتعدّاش". وكنتم على أهبة المزيد والمزيد: مالك، سمر، هيثم، هندة،… وكل الأخريات والآخرون. وكم رأيتُك في لقاءات لنا قريبةً من تلك التواريخ، وأنت تعودُ من جولات النضال تلك، لا إلى قواعدك سالِمًا كما اعتاد كثرٌ آخرون، بل إلى ذاتك، فردًا ومجموعةً، مُفكّرا، مُتَسائِلاً عمّا بعد، ناظرًا في الأفق، مُتَرَيِّبًا بعض الشيء متفائلاً من دون حدّ.

آه يا مالك. كيف ترحل وأنت في عنفوان العنفوان؟ وماذا أفعلُ أنا الآن؟؟؟ قلتُ لك، صرتُ أكره كتابة مثل هذه المراثي. أصبّ فيها جام غضبي على هذه المصائر بالغة القسوة، وأبث فيها حزني على من أحببتُ دون حدٍّ تقريبا، ثم أعود إلى بقية ذكرياتي، وأعدّد منها ما لم يحضرني لأكتُبَه، أو ما أتعمّد ألاّ أخرجه من حصريّة ثنائيته الحميمة الجليلة. وها يحصل لي الآن ما حصل لي سابقا مع من سبِقوك ممن ودعتُ.

أعودُ من مرثيَّتي لأجد أنّك، مثل سابقيك، رحلت… بكل معنى اللّفظ، ومن دون رِجعة. كيف ترحل وأنا لم ألتقك مرة أخرى مع عزّة بنظرتها الحانية عليك، أو مع أديب وأنت تحمِلُه ويَحْمِلُك: على ذراعيك يتحدّث بلثغته الطفولية، فيرمي بك جذلانا إلى ما فوق السحاب. آخر مرّة رأيتُك فيها، وكنتُ أحادث هيثم والطيب، مررت بنا مع أديب، وقدْ كبُر.

كان على درّاجته، وكنت ترقبه غير بعيد، محاذيا طريقه. وحين تفطنت إلى وجودنا، ناديتني مثلما تعوّدت دائما "دكتور"، وسلمتَ مبتسمًا واعدا بتوفير وقت للّقاء. ولم تفعل… ولم نفعل… ولن نلتقي ثانية. والآن يامالك، ماذا عسايَ أن أفعل؟… دَعْنِي أعُد إلى ما لم أسرُد من ذكرياتي معك، ثم أخلدُ إلى نصوصك التي معي لأقرأ فيها وعد جيلك الجديد. وداعًا مالك.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات