قصّتي مع السّفر: من تجربة " الحَرْقَه "

Photo

أنا لستُ هنا..

أنا.. لا أحد.. فلقد غادرت نفسي وصرتُ دمعة تدور في أحداق أمّي.. أو وردا منثورا في شوارعكم القذرة تدوسه نعالكم دون وعي منكم بقيمة المحبّة .

كلّ يوم أركب القطارات الذّاهبة شمالا.. و تلك المسافرة جنوبا ..

أسأل المسافرين عن المدن الّتي يبكي فيها النّاس دون خوف ولا خجل ولا نفاق ..

فعند منحدرات الخيبة.. لا نكون عادة محتاجين إلّا للبكاء.. أمّا أنا فقد بلغتُ مرحلة أخرى.. إذ لم يعد يعنيني البكاء بقدر ما أنا مهتمٌّ أساسا بجودة البكاء.. عمقه، جماليّته، تعبيره عن حالات شاهقة للألم و للنّضج.. البكاء كحالة من حالات الوعي.. كموسيقى للرّوح العاشقة في مواجهة هذا العالم الدّاعر الّذي باعت فيه أمّي في سنوات الفقر المجيدة الكثير من السّجائر و البيض الطّازج لعتاة المجرمين في ميناء الصيد البحري بسوسة .

و لذلك عشتُ حياتي كلّها في حالة سفر.. و لازلتُ أنهض كلّ صباح فأحزم أمتعتي بنيّة الرّحيل ثمّ كثيرا ما أتراجع تحت توسّلات أمّي.. و كثيرا ما استطعتُ الإفلات و تهتُ وحيدا في القطارات والسّفن باحثا عن الإنسان .

منذ سنوات بعيدة حين كنتُ وحيدا على قارب من قوارب الموت في إتّجاه إيطاليا قادما من ليبيا، كنّا تقريبا 150 شابّا و9 فتيات على قارب صغير و متهالك.. و كان كلّ المسافرين ينقسمون مجموعات صغيرة تعرف بعضها و أكاد أجزم أنّي الوحيد الّذي لم أكن أعرف أحدا.. و على حين كان المصريّون يرفعون المصاحف عاليا و يستغيثون بالله أن يُنجينا من الموت غرقا.. و كان المغاربة والتونسيين يتخاصمون حول النّفوذ و الهيمنة على تلك المساحة الصّغيرة من الخشب والأحلام.. وكان شباب البنغلاديش متحلّقين حول بعضهم متهامسين بعيون باهتة ووجوه متشابهة.. و شباب إفريقيا من الكاميرون و السودان و ساحل العاج و غيرها يغرقون في صمت مطبق ينتظرون الموت أو الفرج برؤية اليابسة على الطّرف الآخر من الأحلام.. كنتُ أنا وحيدا كما كان أبا ذرّ الغفاري رحمه الله.. و كما كان العقيد أوريليانو بوينديا في أيّامه الأخيرة في غرفته يذوّب الذّهب و يحوّله إلى أسماك و يحوّل الأسماك إلى ذهب في دائرة عبثيّة لا تنتهي.. و هي الدّائرة نفسها الّتي إنخرط فيها شعبنا الأبيّ بتحويله الثورة إلى ثورة مضادّة ثم تمرّده على الثّورة المضادّة و تحويلها إلى ثورة.. و هكذا دواليك.. فكلّ الأحلام الّتي حفرها تشي غيفارا مثلا في وجدان الشّعوب، قد تحوّلت اليوم إلى أقمصة وصور وأوشام يضعها شباب جاهل من عبدة الشياطين على جسمه متصوّرا أن القائد الفذّ جيفارا هو من لاعبي كرة القدم في منتخب كوبا او البرازيل .

و لذلك سأبقى دوما المسافر الأبديّ في كل القطارات وعلى كلّ قوارب الموت باحثا عن الإنسان .

على ذاك الخشب العائم.. كنتُ وحدي بجانب السّائق المصري.. أتأمّل الدّموع الّتي تلمع في عيون شابّ من إيرتريا.. كان صامتا.. ثابت النّظرات.. حزينا و في عينيه أكثر من سؤال وأكثر من حكاية..

وقد بلغ الإكتظاظ على ذاك القارب أن الواحد منّا كان يجلس القرفصاء دون حراك ربّما لأكثر من 30 ساعة دون ماء ولا طعام.. و لكنّ ذلك لم يكن يهمّني.. فقد كنتُ مهتمّا أساسا بأحزان الفتى الإريتري.. وقد كان شابّا وسيما ورصينا..ممكن في أوّل العشرينات.. و قد تفطّن لاهتمامي به فبادلني نظرات عرفان ومودّة حتّى نشأت بيننا صداقة من أروع ما يكون.. حيث قضّينا السّاعات الطّوال نتكلّم دون كلام عن أحزان الليل والنّهار.. وحدها عيوننا الباكية دون دموع قد ترجمت ما في النّفوس من عمق المحبّة والإندماج الإنساني التامّ عبر وحدة الهمّ البشري ووحدة المصير .

عندما وصلنا سالمين بعد تجربة مرعبة حدثت في أعماق البحر وحوّلتني لزعيم حقيقي لتلك الرّحلة وسأرويها لاحقا إن أمكن ذلك.. فلكم أكره أن أبدو في ثوب الأبطال.. و لذلك لطالما إمتنعتُ عن الحديث عن التّجارب الّتي قد أبدو فيها كذلك .

المهمّ حين وصلنا إلى لامبادوزا.. و دخلنا إلى ذاك المخيّم أو بالأحرى السجن الرّائع لمشرّدي الأوطان.. واخترتُ سريري لآخذ قسطا من الرّاحة وجدتُ من روائع الصّدف أنّ جاري في السرير كان ذاك الإريتري الحزين.. فسألته عن تجربته فحدّثني بلهجة فرنسيّة صعبة بالكاد كنت أفهمها أنّه كان طول الرحلة يتذكّر شابّا من أثيوبيا أو من السودان كان معهم في رحلة السفر عبر الصحراء الإفريقيّة إلى ليبيا و قد توفّي في الطريق ودفنوه في مجاهل الصّحراء.. حيث أنّ تلك الرّحلة هي المرحلة الأصعب في كلّ مغامرة "الحرقة" بالنّسبة للأفارقة ..

قال لي أنّه كان شابّا رائعا وبشوشا وطيّبا.. وأنّ أهله ربّما ينتظرون أن يكلّمهم ويرسل لهم الاموال من أروبا.. وأنّه لا أحد في العالم سيعرف قبره.. و أنّهم لم يجدوا عنده أيّ رقم أو عنوان ليراسلوا أهله: هكذا يموت الإنسان شريدا.. مجهولا.. مُثخنًا بالأحلام في غرائب الصّحراء الشّاسعة للأوهام .

لذاك الإريتري الّذي بكى حزنا وخجلا أمامي.. أرفع يدي بالدّعاء و قلبي بالأمنيات.. ولذاك المجهول.. حبيبنا المدفون في الصّحراء.. حزينا ومنسيًّا وثَمِلًا بالأحلام.. أُجهش الآن بالأغنيات.. وتفيض منّي موسيقى الوجد ساعة البُعد.. وأُصغي للرّوح الإنسانيّة الهادرة تنشد في مهبّ الوجع: ذاك هو الإنسان.. ذاك هو الإنسان..

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات