المعجم العسكري عند قيس سعيّد.. خطاب الحرب الدائمة

نخوض حرب تحرير وطني"، "في نفس جبهة القتال"، "الصواريخ على منصّات إطلاقها"، "أريدها حربًا دون هوادة"، "نخوض حرب استنزاف"، "الصواريخ على منصّات إطلاقها"، "تم تحديد ساعة الصفر"، "إما النصر أو الشهادة".. هذه العبارات ليست مقتطفة من خطابات رئيس عربي من بلدان الطوق تخوض قواته حربًا مع العدوّ الإسرائيلي في الداخل المحتلّ، بل هي مجرّد عيّنة من خطابات للرئيس التونسي قيس سعيّد منذ صعوده لرئاسة الجمهورية. فهو قائد حرب يعلنها بنفسه كلّ مرة ضد جهة ما، والجميع هم جنود عدا "الخونة والعملاء". يعكس واقعًا الاستعمال المفرط للمعجم الحربي عند سعيّد مقاربته في مواجهة الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بالبلاد.

وقد أبدى سعيّد، منذ صعوده حقيقة، اهتمامًا مثيرًا للانتباه بكل مظاهر العسكرة و"الأمننة" في أنشطته الرسمية بشكل بيّن مقارنة بسابقيه، وذلك عبر تعدد الزيارات للثكنات العسكرية أو الأمنية سواء ثكنات الحرس أو الشرطة، ناهيك عن زياراته المتكرّرة لمقرّ وزارة الداخلية في تونس العاصمة.

في ماي/أيار 2020، ألقى سعيّد خطابًا بمناسبة زيارته إلى الأكاديمية العسكرية بفندق الجديد في مشهد مستجدّ شكليًا عبر ظهور القيادات العسكرية خلف الرئيس بجانبها مسؤولون مدنيون ضمنهم مديرة الديوان الرئاسي وقتها، مع تضمّن الخطاب لانتقادات مباشرة لخصومه السياسيين، فيما ظهرت محاولة لإظهار الاستقواء بالجيش الذي يُنظر إليه كطرف مهني محايد عن الأزمات السياسية بعد الثورة.

سعي سعيّد لوضع يده على جميع القوات الحاملة للسلاح انعكس في النقاش الدستوري الذي أثاره حين اعتبر أن صفته كقائد أعلى للقوات المسلحة لا تشمل القوات العسكرية فقط بل تشمل ما وصفها بالقوات الأمنية والمقصود أجهزة الشرطة والحرس التابعة لوزارة الداخلية. عكس هذا التأويل الدستوري المتعسّف مثالًا عن جنوحه لإبقاء القوات الحاملة للسلاح تحت سلطة رئاسة الجمهورية فقط.

ولاحقًا، لم يكن مفاجئًا أن يعلن سعيّد "التدابير الاستثنائية" يوم 25 جويلية/يوليو 2021 في اجتماع ضمّ قيادات عسكرية وأمنية باعتبارها ظهيرًا له، كما أراد أن يظهر أمام الرأي العام، لانقلاب الأمر الواقع الذي فرضه من مدخل حالة الاستثناء.

تكثّف النشاط الرئاسي بعد الانقلاب المرتبط بزيارة الثكنات ووزارة الداخلية بل أصبح الرئيس يعلن قراراته وتوجهاته من داخلها، على غرار ما بات يُعرف بـ"خطاب العوينة" (ثكنة الحرس الوطني بالعوينة)، بداية فيفري/شباط 2023، الذي كشف عن تصعيد رئاسي في مواجهة المنظمة الشغيلة ورفض لمبادرة الحوار الوطني الذي تعمل على إعدادها مع منظمات وطنية.

بل إن رئيس الدولة أعلن عن حلّ المجلس الأعلى للقضاء، في فيفري/شباط 2022، في اجتماع مع قيادات أمنية بمقرّ وزارة الداخلية، في مشهد يعكس رمزيًا واقع تمدّد نفوذ الأجهزة الأمنية بعد ضرب مقومات استقلالية القضاء، كثبوت إعفاء عدد من القضاء بقرار رئاسي استنادًا على تقارير أمنية بحتة. وفي خضمّ كل الخطابات، سواء من قصر قرطاج أو من المقرات الأمنية، كان الخطاب الحربي هو الحاضر الدائم.

للإشارة فإن رئيس الدولة، منذ صعوده، لم يبدِ أي اهتمام باستقبال قيادات الأحزاب ورؤساء المنظمات الوطنية في قصر قرطاج في الأعياد الوطنية كعيد الاستقلال وعيد الجمهورية، كما جرت العادة مع الرؤساء السابقين، لكنه يهتمّ بالاحتفاء بعيديْ الأمن والجيش بقصر قرطاج مستقبلًا المنتمين لهذين السلكين من مختلف الرتب مع توجيه كلمات دائمًا ما تتضمّن رسائل سياسية لخصومه.

الرئيس القادم من خلفية مدنية بحتة، ظهر أنه مولع كثيرًا بإظهار المشاهد العسكرية والأمنية، سواء من حيث المكان أو الشخصيات التي يستقبلها، بما يبيّن خياره في العمل مع المسؤولين الأمنيين والعسكريين في الدولة دون المسؤولين السياسيين والمدنيين في البلاد.

حديث سعيّد المستمرّ عن الحرب هو أحد عناصر خطاب الأزمة لديه، فهو يتعامل مع خصومه السياسيين كأعداء في معركة عسكرية، لذلك فهو يعتبر أن الخيار أمامه هو النصر أو الشهادة، أي أن إدارة الاختلاف معهم بالنسبة إليه هي إدارة لحرب وجود تقتضي مواجهة، بكل الوسائل، ضد الخصوم الذين وصفهم، في إحدى المناسبات، بأنهم "خلايا سرطانية لا بد من القضاء عليها بالأشعة أو الكيماوي". هي استعارة مثيرة للخوف في عمقها.

بالنهاية، دائمًا ما يكون رئيس الدولة مطالبًا بتقديم خطاب وحدة وطنية جامع وينبذ الفرقة، باعتبار أن الخصوم السياسيين هم مكوّن طبيعي بالضرورة في أي مشهد سياسي، وهم أيضًا يعكسون الاختلافات التي تعرفها المجتمعات بطبيعتها، وأدوات إدارة الاختلاف معهم محددة في أي نظام ديمقراطي.

لكن سعيّد، على خلاف الدور المطلوب من رئيس الدولة، انغمس في تبنّي خطاب حربي راديكالي يوزّع التهم يمنة ويسارًا ضد المعارضين، وهو دائمًا ما يهدّدهم باستعمال كل الوسائل لدحرهم، وقد استعمل فعلًا الآلة القضائية للزجّ بعديد المعارضين في السجن في قضايا ملفقّة. ربما يكون سعيّد مولعًا منذ صغره بالخطاب الحربي وكان يُمني النفس يومًا بإعلان حرب ضد عدوّ ما، ولكن عليه أن يعي أن الخطاب الذي يصدّره، وهو المسؤول الأول عن الدولة، منتهاه هو إشاعة مناخ من الأحقاد في صفوف التونسيين وتهديد السلم الأهلي، بما يؤدي لانفلات الأمور يومًا ما.

رئيس الدولة العاقل لا يعلن الحرب إلا على الأعداء فقط، والخصوم السياسيين ليسوا أعداء إلا إن كان قيس سعيّد هو رئيس ذو فكر سلطوي وكلياني. وأحيانًا نحن بحاجة للشكّ فيما نعاينه لأن الحقيقة ببساطة مرعبة.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات