هل تسير تونس نحو موت الأحزاب السياسية ؟

يلاحظ المتابع للحياة السياسية في بلادنا ان قيس سعيد رئيس الجمهورية منذ تولّيه الحكم قليل الاتصال مع قادة الاحزاب السياسية فهو عموما يستقبل الشخصيات السياسية بصفتها الوظيفية في مؤسسات الدولة دون اعتبار لصفتها الحزبية لاسيّما بداية من جانفي 2021 عندما ظهرت للعلن بوادر الأزمة السياسية بينه وبين الحكومة التي يرأسها هشام مشيشي و الاحزاب المؤيدة فرفض استقبال الوزراء الذين نالوا ثقة البرلمان و رفض تسميتهم بأمر كما رفض ختم بعض القوانين التي صادق عليها مجلس النواب وبعد 25 جويلية 2021 اصبح واضحا اتجاه رئيس الجمهورية نحو اقصاء الاحزاب من الحياة السياسية بشكل كامل.

قبل 25 جويلية 2021

وسنستعرض هنا امثلة على اسلوب تعامل رئيس الجمهورية مع الاحزاب السياسية:

– استقبل يوم الأربعاء 10 فيفري 2021 عددا من أعضاء مجلس نواب الشعب و ذكر بيان رئاسة الجمهورية اسماءهم و لم يذكر صفتهم الحزبية « وهم السادة والسيدة سامية عبو وزهير المغزاوي وهيكل المكي ومحمد عمار ونبيل حجي وحاتم المليكي وهشام العجبوني ومروان فلفال وسمير ديلو ونوفل الجمالي ومصطفى بن أحمد«.

وقد ورد في هذا البيان « خصص هذا الاجتماع لتباحث الوضع السياسي في البلاد وخاصة أسباب الأزمة الراهنة المتعلقة بأداء اليمين والتحوير الوزاري،والحلول المطروحة للخروج منها والتي تقوم أساسا على احترام علوية الدستور والقوانين واحترام مؤسسات الدولة.

و جاء فيه ايضا ان رئيس الجمهورية ذكّر « بأن التحوير الوزاري تشوبه العديد من الخروقات مجدّدا حرصه على تطبيق الدستور. كما أكّد على أننا في وطن حر وأن حل الأزمة القائمة يكون باحترام النص الدستوري لا بالتأويلات أو الفتاوى التي في ظاهرها حق وفي باطنها تجاوز للدستور ولا بالبحث عن مخرج قانوني مستحيل«.

– و استقبل يوم 9 مارس 2021 هيكل المكي بصفته رئيس لجنة برلمانية وهي لجنة المالية و التخطيط و التنمية و ليس بصفته الحزبية رغم انتمائه لحزب« حركة الشعب » المساندة لرئيس الجمهورية و المعارضة بشدّة للحكومة التي يرأسها هشام مشيشي فلم يذكر بيان رئاسة الجمهورية صفة هيكل المكي الحزبية.

– و كان دعا يوم الثلاثاء 15 جوان 2021 الى اجتماع بقصر قرطاج ضمّ رؤساء الحكومات السابقين بعد الثورة وهم علي العريّض ويوسف الشاهد وإلياس الفخفاخ وبحضور رئيس الحكومة هشام مشيشي و افاد بيان رئاسة الجمهورية انّه تخلّف عن هذا الاجتماع كلّ من السيدين حمادي الجبالي ومهدي جمعة ت لوجودهما خارج أرض الوطن وانه لم يتسنّ للسيّد الحبيب الصيد الحضور بسبب وضعه الصحّي و اضاف البيان بأنه« لم يتم توجيه الدعوة بناء على الانتماء الحزبي بل باعتبار التجربة التي مرّ بها المسئولون المذكورون ».

منذ 25 جويلية 2021

اعلن قيس سعيد رئيس الجمهورية يوم 25 جويلية 2021 عن تدابير استثنائية اسسها على الفصل 80 من الدستور و التي من بينها تجميد البرلمان ثمّ حلّه بعد ان كان صرّح بأنّ الدستور لا يجيز له حلّ البرلمان و ان اجرائي تجميد البرلمان ثمّ حلّه هما ضربة موجعة ضدّ الأحزاب السياسية تمنعها من المشاركة في الحياة السياسية لاسيّما :

– الرقابة على عمل السلطة التنفيذية

– سنّ القوانين بصنفيها العادية والأساسية

– سن قوانين تعديل الدستور

– المشاركة في البرلمان في انتخاب اعضاء الهيئات الدستورية سواء بعض اعضائها مثل المحكمة الدستورية المقبورة او كلّ اعضائها مثل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات التي نقّح قانونها بالمرسوم عدد 22 لسنة 2022 المؤرخ في 21 افريل 2022 ولا سيما الفصول 5 و 6 و 8 التي تعطي دورا كبيرا لمجلس نواب الشعب فيما يتعلق بعضوية هيئة الانتخابات فهي تنص على ان المجلس التشريعي ينشئ لجنة خاصة لتدرس ملفات الترشح لعضوية هذه الهيئة و بعد استكمال الدراسة تعدّ قائمة نهائية مرتبة تفاضليا للمترشحين و تحيلها الى الجلسة العامة التي تنتخب أوّلا اعضاء الهيئة و ثانيا رئيسها و يتم الانتخاب طبق اجراءات و آجال يبيّنها الفصل 6 لكن بالمرسوم عدد 22 لسنة 2022 لم تعد تركيبة اعضاء مجلس هيئة الانتخابات من نظر البرلمان و لم الانتخاب سبيلا لتركيبة مجلس الهيئة فقد اصبحت ملفت الترشح توجه الى رئيس الجمهورية الذي له صلاحية اختيار اعضاء الهيئة و صلاحية تعيينهم و صلاحية تعيين رئيسها.

و تتالت القرارات الموجهة ضدّ الأحزاب السياسية من خلال الغاء دورها في الحياة السياسية فالمرسوم عدد 30 لسنة 2022 مؤرخ في 19 ماي 2022 المتعلق بإحداث « الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة » لم يأت فيه ذكر للأحزاب السياسية و يتجاهل حتى الاحزاب التي دعّمت مسار 25 جويلية و دعت الى تشريكها في الحياة السياسية و اقصاء الاحزاب التي عارضت هذا المسار لكن شملها هي ايضا مما يدلّ على ان مفهوم الحزب السياسي هو المعني اساسا بالإقصاء.

وقد رفضت جلّ الأحزاب هذا المرسوم فقد شدد حزب المسار الديمقراطي الاجتماعي في بيان بتاريخ 24 ماي 2022 على ضرورة عدم إقصاء الأحزاب السياسية وعدم تهميش دور المنظمات الوطنية .

واعتبرت أحزاب الجمهوري والتكتل والتيار الديمقراطي في بيان مشترك، أنّ توجّه رئيس الجمهورية يتمثل في دفع البلاد نحو مسار « يقزّم المجتمع ويلغي دور الأحزاب السياسيّة ويهمّش منظّمات المجتمع المدنيّ ويجعلها شاهدة زور على صياغة دستور كتب في الغرف المغلقة بناء على استشارة إلكترونيّة فاشلة لم تعلن حتى نتائجها للرأي العام « .

وأمّا اتحاد الشغل فقد اعتبر سامي الطاهري ناطقه الرسمي ان الاتحاد لن يشارك في حوار يقصي الأحزاب معتبرا اقصاءها جريمة : « لن نشارك في أي جريمة لقتل الاحزاب في تونس … الاتحاد لن يتورط في هذه الجريمة و اذا تم القضاء على الاحزاب اليوم فانه سيتم بعدها القضاء على المنظمات سبق و ان عانينا من الحكم الفردي و لن نقبل به اليوم« .

ان الغاء الاحزاب او تقزيم دورها في المجتمع و الدولة هو تمشّ ضدّ التاريخ والواقع فالأحزاب قادت حركات التحرّر الوطني في بلدان شمال افريقيا تونس و الجزائر و المغرب ضد المحتل الفرنسي فمثل حزب الاستقلال في المغرب و في الجزائر جبهة التحرير الجزائرية و حزب الشعب الجزائري بقيادة مصالي الحاج و في تونس الحزب الحر الدستوري بشقيه القديم و الجديد .

فعندما احتلّت فرنسا تونس واجهتها مقاومة مسلّحة لم تدم طويلا لكن في بداية القرن العشرين بدأ المجتمع المدني التونسي يظهر للعلن و أخذت حركة المقاومة الوطنية ضد الاحتلال شيئا فشيئا اشكالا جديدة مثل حركة الشباب التونسي ثمّ تطوّرت في شكل احزاب سياسية تقود البلاد تدريجيا نحو الاستقلال لاسيّما بعد أن أسّس عام 1920 الشيخ عبد العزيز الثعالبي الحزب الحر الدستوري الذي انشقّ عليه الحزب الدستوري الجديد بقيادة الحبيب بورقيبة كما تمّ تأسيس الحزب الشيوعي التونسي.

وجد المواطنون في الاحزاب سبيلا للتعبير عن رفضهم للاحتلال و وسيلة لمقاومته سياسيا و ان اقتضى الامر المقاومة المسلحة وكان البيت الحسيني على صلة بالحزب الحر الدستوري مثل الملك الشهيد محمد المنصف باي الذي تجسمت في شخصه النزعة الاستقلالية فالباي المنصف دون استشارة سلطة الاحتلال شكّل حكومة من بين اعضائها محمود الماطري الرئيس السابق للحزب الحر الدستوري و عندما كان أميرا شجّع والده محمد الناصر باي على استقبال اعضاء هذا الحزب.

وفي دولة الاستقلال تعاظم دور الاحزاب السياسية المعارضة التي خرجت من جلباب الحزب الحاكم وتمردت عليه فقد اعتمدت السلطة الحاكمة على حزبها أوّلا لإنشاء مؤسسات الدولة التي كان كلّ اعضائها سواء في الحكومة أو في البرلمان منتمين له و اعتمدت عليه ايضا في قمع الرأي المعارض زمن رئاسة الحبيب بورقيبة و بن علي لاسيّما من خلال لجان اليقظة فلجأ المعارضون لها الى تأسيس احزاب مستقلة عن الحزب الحاكم و من المارقات ان اعضاء في الحزب الحاكم لم يرضوا على السياسة المتبعة من الدولة فانشقّوا عنه و أسّسوا احزاب معارضة مثل حركة الديمقراطيين الاشتراكيين و حزب الوحدة الشعبية.

ان التعلل بان الاحزاب تعيش اليوم ازمة في ظل الديمقراطية النيابية لا معنى له في بلاد وضعت قدما مترددة في التحول الديمقراطي ..لقد كان الحزب في تونس في عهد بورقيبة وبن علي أداة قمع في نظام استبدادي، ولكن الاحزاب اضحت بعد الثورة رغم عيوبها أداة للتعبير عن مواقف سياسية ورؤى اقتصادية واجتماعية وهي مدارس للتنشئة السياسية لا محيد عنها فلا يمكن لاي مجتمع يتدرب على الديمقراطية ان يتخلى عنها.

نصلح الحياة الحزبية ولا نلغى وجودها

صحيح ان عدد هذه الاحزاب في تونس تجاوز حاجة البلاد اليها حتى اضحت مجرد دكاكين مفرغة من أي محتوى سياسي حقيقي وصحيح أيضا ان أداءها في مجلس نواب الشعب خاصة، قدم صورة مشوهة عن السياسة والسياسيين وعن البرلمان عموما جراء مشاحنات وصراعات وصلت احيانا الى العراك بالأيدي. كما كانت الحياة الداخلية لكثير من الاحزاب مثار نزاعات ومعارك معوية أوصلتها الى التفتت والانقسام وتجزئة المجزأ مثل حزب النداء الذي اقسم إلى » ملل ونحل » كثيرة وانتهى الى الزوال تقريبا والجبهة الشعبية التي تفككت تماما وانتهى وجودها لتعود مكوناتها الاصلية الى عزلتها وسكتريتها .

وهي صورة يتحمل مسؤوليتها الجميع غير أن ذلك يحتاج الى اصلاح المشهد السياسي الحزبي سواء داخل البرلمان او خارجه لا الى اعدام الحياة الحزبية . ولذلك نرى أنه من الأجدر أن يقع الحد من تمثيلية الاحزاب في البرلمان وهو المكان الذي يتجلى فيه وجودها على الساحة العامة أكثر من غيره وذلك بتنقيح القانون الانتخابي وادراج عتبة تكون بخمسة في المائة على الاقل ( ادرجت عتبة بثلاثة في المائة في تنقيح القانون الانتخابي سنة 2019 وهو مشروع القانون الذي رفض الباجي قائد السبسي ختمه ). . هكذا يمكن أن نحد من ظاهرة الاحزاب المجهرية التي لا تضيف شيئا الى المشهد السياسي والبرلماني خصوصا والتي تدور في فلك شخص واحد في غياب اي مؤسسات داخلها ولا ديمقراطية صلبها ، وفرض تشكيل تحالفات وائتلافات حزبية فاعلة حاملة لتصورات وبرامج . هي خطوة اولى ، ولكنه اجراء عاجل نحو استعادة الثقة في الأحزاب والعملية الديمقراطية برمتها والتي تمر بأكبر أزمة لها منذ 2011.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات