دستور في أيام معدودات : هل عندنا الى حكم البايات ؟

يوم 1 ماي 2022 الموافق ليوم 30 رمضان 1443 توجّه قيس سعيد رئيس الجمهورية بكلمة الى التونسيين بمناسبة عيد الفطر المبارك طبق عرف دأب عليه رؤساء الجمهورية التونسية و بدأ كلمته بالبسملة و الحمدلة وبالصلاة على « أشرف الخلق و المرسلين و قال فيه بأنّه « عملا بالأمر المتعلّق بتدابير استثنائية ستتشكّل لجنة بهدف الاعداد لتأسيس جمهورية جديدة …..

و اصدر الأمر عدد 499 لسنة 2022 المؤرخ في 20 ماي ان عبارة « بهدف تأسيس جمهورية جديدة » ليست واضحة ولا تكشف عن مهمة اللجنة التي اعلن عن عزمه على احداثها . بعد 19 يوما اصدر المرسوم عدد 30 لسنة 2022 المؤرّخ في 20 ماي 2022 المتعلّق بإحداث « الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة » يبيّن فيه مهمة تلك اللجنة فقد أسند لها في الفصل الثاني من المرسوم مهمّة أن تتولّى بطلب منه « تقديم اقتراح يتعلق بإعداد مشروع دستور لجمهورية جديدة ويقدم هذا المشروع إلى رئيس الجمهورية » و أسّس المرسوم على الأمر عدد 117 لسنة 2021 المؤرّخ في 22 سبتمبر 2021 وهو أعلى رتبة من الدستور.

و اصدر الأمر عدد 499 لسنة 2022 المؤرخ في 20 ماي 2022 عيّن وسمّى بموجبه الصادق بلعيد رئيس منسق لتلك الهيئة و الذي بصفته رئيسا لها عهد له الفصل السادس من المرسوم إدارة أعمالها والإشراف على أعمال اللجان والتنسيق بينها وهو حافظ نظامها ووثائقها .

قال رئيس الجمهورية في كلمته إن اللجنة تنهي أعمالها في ظرف وجيز، في ظرف أيّام معدودات لأنّ القضايا واضحة و لأنّ الاختيارات واضحة….

ان وضوح القضايا و الاختيارات مأتاه ان اللجنة تعتمد في عملها على ما جاء في هذا الأمر و على نتائج « الاستشارة الوطنية » لذا غير مستبعد ان لا تتجاوز مدّة عمل اللجنة الشهر.

و « أيام معدودات » عبارة قرآنية و ردت في عديد الآيات و السور و من بينها الآية 183 من سورة البقرة التي فرضت الصيام في شهر رمضان :
يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ اُ۬لصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَي اَ۬لذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (182) أَيَّاماٗ مَّعْدُودَٰتٖۖ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً اَوْ عَلَيٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنَ اَيَّامٍ ا۟خَرَۖ وَعَلَي اَ۬لذِينَ يُطِيقُونَهُۥ فِدْيَةُ طَعَامِ مَسَٰكِينَۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراٗ فَهُوَ خَيْرٞ لَّهُۥۖ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٞ لَّكُمُۥٓ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَۖ (183) -1-

يبدو ان تكليف لجنة استشارية بإعداد مشروع دستور هو رجوع عن الحقوق و الحريات التي ناضل من اجلها التونسي زمن الاحتلال وزمن دولة الاستقلال و التي اكتسب البعض منها بعد الثورة فيما يخصّ مشاركة المواطنين بواسطة نواب منتخبين في كتابة النصّ التأسيسي.

لقد عرفت بلادنا أربعة نصوص تأسيسية صدر الأوّل والثاني في عهد الدولة الحسينية و قبل الاحتلال الفرنسي منحة من الباي لرعيته و هما عهد الأمان أصدره محمد باي (بفتح الميم )يوم 9 سبتمبر 1857 و قانون الدولة التونسية المعروف بدستور 1861 اصدره محمد الصادق باي والثاني و الثالث في عهد الجمهورية.

كتابة النصّ التأسيسي في العهد الحسيني

لقد اوكل تحرير عهد الأمان و دستور 1861 الى النخبة التونسية ذات الفكر و الإصلاحي.

لم يكن التعليم في ذلك الزمن منتشرا و لم تكن مبادئ الاقتراع العام متداولة ولم يكن التونسيون مواطنين لهم حقوق مدنية و سياسية وإنما هم رعايا الباي.

منحهم محمد الباي عهد الأمان فلم تستغرق كتابته أيّاما معدودات لم تتجاوز يومين و قد أوكل الباي تحريره الى الوزير أحمد بن أبي الضياف الذي أحسّ بثقل المسئولية ولم يكن في وسعه في ذلك الزمان رفض ما يأمره به الباي حاكم البلاد فقبل المهمة وتعهّد بإنجاز ما طلب منه بالسهر لكتابته والتمس من الباي ان تتمّ من الغد مراجعة جماعية لما انجزه حتّى لا ينسب اليه وحده وكانت المراجعة بالزيادة و النقصان.

كتب عهد الأمان في ساعات معدودة بعد ان تمّ الاتفاق على المبادئ التي سيتضمنها المستمدّة من « أصول التنظيمات الخيرية « ومن أهمّها تأمين الرعية و سكّان المملكة في أبدانهم و اعراضهم و في اموالهم و تساوي الناس امام القانون دون اعتبار للمكانة الاجتماعية و دون فرق بين « المسلم و غيره من سكان الإيّالة » و احداث محاكم للجنايات و أخرى للتجارة و حضور من يمثلّ الذّميين بين اعضاء المحكمة اذا كان المتهم ذمّيا و تحرير التجارة إلاّ ما تختص به الدولة.

تلك أحكام تحدّ كثيرا من سلطان الباي فهو يعتبر أن من صلاحيات الملك الجلوس للقضاء بين المتخاصمين و كان قبل ذلك انكر على سلفه ابن عّمه احمد باي عدم مباشرة القضاء لكنّ قبل بخروج القضاء من سلطته فلفت ابن ابي الضياف نظره الى خطورة ما التزم به. ناقلا الحوار الذي جرى بينهما.

«يا سيّدي ان الأمر صعب على مثلك فاعرف ما تلتزم به فانك بهذا الأمر تكون يداك هكذا »

و قبضت يديّ الى جنبيّ فقال لي :

«لأجل نفع الرعية نرضى ان تكون يديّ هكذا وقبضهما الى جنبيه قبضا اشدّ من قبضتي »

فقلت له « هنيئا لك »

و وقع الاتّفاق على قراءته ضحى يوم الأربعاء العشرين من محرّم السنة 1274 (9 سبتمبر 1857 ) فاستدعى الباي سائر اهل المجلس الشرعي واعيان الدولة و امير الاسطول ومن معه من الاعيان و قناصل الدول وكبير الاساقفة والرهبان و احبار اليهود و غيرهم من اعيان الوافدين و لبس ثياب الزينة و رجال دولته كذلك -2-

وجاء في الاتحاف ان محمد الصادق باي أمر ابن أبي الضياف بأن « يكتب خلاصة المراد من قانون الدولة وقراءته بين يديه على الجماعة لمّا يستقرّ بهم المجلس و استعرض نص هذا الأمر » -4-

كتابة نواب الشعب لدستوري 1959 و 2014

وأمّا النّصان الثالث و الرابع فانجزتهما دولة الاستقلال و قد حرّر كل واحد منها مجلس تأسيسي أنتخب أعضاؤه بالاقتراع العام و هما دستور 1 جوان 1959 الذي تمّ اعداده بعد اعلان الجمهورية و استغرقت كتابته قرابة ثلاثة اعوام و شهرين رغم ان المجلس القومي التأسيسي لم يكن تعدّديا وتسيطر عليه الجبهة القومية بزعامة الحزب الحر الدستوري الجديد بزعامة الحبيب بورقيبة.

وأمّا دستور جانفي 2014 فقد كتبه المجلس الوطني التأسيسي وهو تعدّدي أنتخب أعضاؤه في أوّل انتخابات حرّة و مستقلة اشرفت عليها هيئة انتخابات مستقلة لاسيّما عن السلطة التنفيذية فالتعليم بدأ يعمّم و أصبح التونسيون مواطنين لهم الحقوق السياسية و المدنية و لهذا الاعتبار يساهمون عبر ممثليهم المنتخبين في تحرير الدستور و قد تم.
تحرير هذا الدستور هو ايضا في ظرف ثلاثة اعوام.

في الاخير يتضح من دروس التاريخ ان العهود مثل عهد الامان 1857 والدساتير الممنوحة مثل دستور 1861 والتي تكتب من قبل السلطة السياسية و اعوانها تذهب بذهابهم وفي ظرف وجيز ناهيك ان دستور 1861 سقط مع قرار حل المجلس الاكبر من قبل الباي سنة 1864 اي انه لم يعمر اكثر من ثلاث سنوات ..تلك حقيقة معلومة . ان التغاضي عن دروس الماضي والتاريخ لا يقود الى غير الفشل . هذا من جهة ومن جهة اخرى فان الدساتير الديمقراطية التي صنعتها الارادة الشعبية من خلال انتخاب. الشعب لنوابه المؤسسين بقصد كتابة دستور للدولة كما حصل ذلك في مارس 1956 اياما بعد الاستقلال ليست وحيا يوحى ولا كتبا مقدسة، بل هي عمل بشري يحتاج في ظروف معينة الى المراجعة والتعديل غير انه لا بد ان يتوفر لاي تنقيح للدستور الحد الأدنى والضروري من المناخات السياسية الحرة التي تسمح كما يطالب بذلك الجميع اليوم بحوار وطني شامل علني ومفتوح حول اي مشروع دستوري دون اقصاء لاي طرف الا من يقصي نفسه . غير ان المتأمل في واقع الاطار السياسي والاجتماعي الذى تقدم فيه السلطة اليوم مشروع الدستور الجديد لا يجد اي عناء في ملاحظة افتقاده الى اي من هذه شروط المستوجبة للوصول الى عقد اجتماعي جديد قائم على الوفاق والتراضي لا على الفرض والاكراه.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات