بيئة مفاوضات غزة: سوء الظن من اقوى الفطن

عندما تولى الرئيس الامريكي الاسبق رونالد ريغان منصبه عام 1981 ، طلب من موظفيه إعداد قائمة بأبرز الشخصيات الامريكية التي سبق لها وأن تفاوضت مع وزير الخارجية السوفييتي أندريه غروميكو(عمل وزير خارجية من 1957-1985)، ثم طلب من الفريق الذي حضر لتلبية طلبه ان يعدوا له تقريرا عن " كيفية التفاوض مع غروميكو"، لأن ريغان القادم من عالم السينما يدرك أنه سيتواجه مع وزير خارجية احد اهم دول العالم ،وله خبرة في التفاوض تزيد عن 28 سنة...فلم يذهب ريغان للتفاوض بالطريقة التي ذهب بها فريق اوسلو الفلسطيني وجر الكارثة الكبرى على شعبه.

ان معركة المفاوضات الجارية حاليا بين المقاومة الفلسطينية وبين فريق التفاوض المقابل( امريكا واسرائيل ومصر وقطر) تدل بداية على الخلل المركزي في هذا التفاوض والذي اشرت له كثيرا في مقالات سابقة، وهو ان المقاومة تتفاوض مع " عدوين مباشرين، وآخرين عداؤهما من وراء حجاب"، فاثنين من المفاوضين هم "مسلمون ولما يدخل الايمان قلوبهم"، ولذا لا بد من التفكير في كيفية معالجة هذه الثغرة الكبرى.

كنت قد جمعت مادة علمية غزيرة عن التفاوض، وقد أتمكن من تحويلها لكتاب، لكن اهم ما تبين لي من الدراسات المتخصصة في هذا الموضوع ، ومن عروض التفاوض والخبرات التاريخية للتفاوض في العلاقات الدولية القديمة والحديثة والمعاصرة ، ما يلي:

أولا: ليس هناك مفاوضات معزولة عن موازين القوى، ويجب فهم ان اهم ما في مقومات ميزان القوى هو فن توظيف متغيرات القوة التي تمتلكها مهما بدت قوية او ضعيفة، اي فن التلاعب بمقومات القوة، فحروب العصابات مثلا نجحت في حالات كثيرة لأنها احسنت فن توظيف متغيرات القوة المحدودة بشكل جعل هذه المقومات ذات تأثير فعال. وان المعركة الدائرة في غزة والتي اذا قيست بمتغيرات القوة المادية يتضح بان الفارق لصالح اسرائيل بقدر هائل، لكن مستوى النتائج لاسرائيل لا تتناسب مع فارق موازين القوة، وهو ما يؤكد ان المقاومة تدير متغيرات قوتها المحدودة بكيفية لفتت انتباه مراكز دراسات استراتيجية عالمية…والتفاوض ليس منفصلا بأي شكل من الأشكال عن ميدان المعركة، فكما قال المفاوض الفيتنامي لكيسنجر ان عليك ان تتنازل لي على طاولة المفاوضات بما يتوازى مع نتائج ميدان المعركة.

ثانيا: الاختيار بعناية لفريق التفاوض، والاستعانة بخبراء سياسيين واقتصاديين واجتماعيين وعلماء نفس وليس بوجهاء اجتماعيين او ممن تنقصهم المعرفة بملابسات الحياة الدولية المعاصرة، ومثال ذلك فريق التفاوض في اوسلو ممن يعانون من عقد نفسية تجاه المفاوض المقابل او ممن يدفعك للتقيؤ عند سماع احدهم يقول " لو سمع نيتنياهو اسم محمود عباس سيصاب بالذعر"،فمثل هذه الشخصية تجعل المفاوض الاسرائيلي في أعلى درجات الاطمئنان. ان الخبرات المختلفة ضرورية، فالفريق الايراني الذي رافق المفاوض في موضوع البرنامج النووي كان يضم عشرات خبراء اللغة، لان المصطلحات والمفاهيم قابلة للتأويل ، ولذلك تجد في اغلب الاتفاقيات الملتبسة في موضوعاتها نصا على اللغة المعتمدة لتفسير بنود الاتفاق، فارامل اوسلو ظنوا ان (redeployment) تعني الانسحاب،ولم يميز البعض بين الهدنة ووقف اطلاق النار ، وكما جرى مع المثال المشهور في قرار 242 الخاص بأراض محتلة والاراضي المحتلة. صياغة النصوص للاتفاق يجب ان تضع مصفوفة لاحتمالات تأويل النص، وهنا اهمية اللغة المعتمدة في تفسير المفردات ، فمفهوم المدنيين أو مفهوم المساعدات الانسانية، أو عبارة شمال غزة او الوسط او الجنوب، لا تتركها دون تحديد إذ عليك ان تضمر تفسيرا لكل منها..فما هو من مصلحتك اجعله واضحا تماما، وما تظنه في غير مصلحتك حاول ان تتم صياغته بطريقة قابلة للتأويل من طرفك لاحقا ، مثلا عند ذكر المساعدات الانسانية (هذه لصالحك..) من الضروري ان تحددها بأنها تعني كل ما تعتبره الهيئات الدولية المختصة مما يقع في نطاق المفهوم(يعني منظمة الصحة هي التي تحدد الأدوية واللوازم الطبية ..منظمة الاغذية والزراعة هي التي تحدد ما يدخل من اغذية ومستلزمات الزراعة والري والمبيدات الحشرية…وكالة الغوث تحدد مستلزمات التعليم والاغاثة، منظمة العمل الدولية تحدد مواد اعادة بناء البنية التحتية…الخ. ولا تترك مثل هذه المصطلحات التي لصالحك دون تحديد لكي تمنع الطرف الآخر من اعادة تأويلها.

رابعا: دراسة شخصيات الفريق المفاوض المقابل: لا بد من جمع المعلومات وفهم خلفياتهم (كما فعل ريغان مع غروميكو)، ولكني اشير لدراسة امريكية عن المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية زمن اوسلو، إذ تطلب الدراسة من المفاوض الاسرائيلي التسلل لنفسية المفاوض الفلسطيني من خلال ممارسات سيكولوجية مشتقة من فهم محدد للعقل العربي، مثلا تطلب الدراسة من المفاوض الاسرائيلي ان لا يدخل للقاعة قبل المفاوض العربي ويصر ان يدخل العربي اولا، وعند الوصول لطاولة المفاوضات لا تجلس قبل المفاوض العربي، ثم لا تأخذ الضيافة كالمشروبات قبله، ولا تبدأ الكلام قبلة، وخاطبه بمفردات التبجيل (جلالتك، او سموك، او سيادتك ومعاليك..الخ).فبهذا السلوك مع المفاوض العربي سيستقر في وعيه انك تحترمه وتتعامل معه بوقار شديد يليق بمكانته ، وهنا يكون المفاوض الاسرائيلي قد تسلل لداخل هذا المفاوض العربي ،وسيعمل على استثمار هذا التسلل…لذلك اياك والاعجاب بالمفاوض المقابل.

رابعا: دراسة السوابق التفاوضية: ويجب ان تتم الدراسة لا كسرد حكايات ،بل لا بد من دراسات جولات التفاوض العربي الاسرائيلي سواء القديمة والحديثة او السرية التي تم نشرها لاحقا او العلنية…الخ، ومحاولة فهم طريقة التفاوض من الطرف المقابل ، والاستفادة من كل ذلك في التفاوض الحالي.

خامسا: عليك ان تتسلح وبقوة "بسوء النية المطلق" في المفاوضات، فكل كلمة وكل حركة وكل صورة فردية او ثنائية او جماعية وكل تصريح او طريقة جلوس او طلب او لباس او موعد او مكان للتفاوض يجب ان يكون التعامل معه على اساس سوء النية، وعليك ان تجعل "عدم الثقة" هو الرصيد الذي تسحب منه في كل لحظة، والذكاء التفاوضي هو ان تجعل الطرف المقابل لا يشعر بأنك "سيء النية الى هذا الحد".

سادسا: عند التفاوض عليك مسبقا ان تحدد ما يلي:

أ‌- ما هي الاهداف التي لا يجوز بأي حال من الاحوال التنازل عنها(مثل الانسحاب من القطاع مثلا).

ب‌- ما هي الاهداف التي يمكن التنازل عنها ولكن بعسر وبعد اطالة في بحث موضوعها.

ت‌- ما هي الاهداف التي يمكن التنازل عنها بشكل اسرع من غيرها لخلق انطباع أنك تريد نجاح التفاوض.

ث‌- يجب استغلال فترة التفاوض لتعزيز امكانيات تحسين موضعك التفاوضي لاحقا.

ج‌- تحديد ما يقال وما لا يقال من فريق التفاوض لوسائل الاعلام.

ح‌- الاتفاق على الاقوال التي تساعد على ارباك الطرف الآخر وجعله يفهمها بطريقة ما ،فان كان فهمه هو الذي تريده فهذا جيد، واذا كان فهمه بكيفية مخالفة فعليك استثمار ذلك حسب الموضوع.

خ‌- اجعل من " ربما" (may be )مفردة شائعة في تحديد موقفك مما يُعرض ملتبسا، لكي لا تلزم نفسك بأي موقف قبل اتضاح الامور .

د‌- تمنياتي للفريق الفلسطيني المفاوض ان لا يكرر " أوسلو"، ولعل اداء المقاومة حتى الآن يجعلني واثقا أنهم فهموا الدرس جيدا، ولكن لا بد من " إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ".

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات