الجيل الجديد أكثر وعيا ممن سبقه في فهم أبجديات صناعة الأصدقاء

خلال الانتفاضة الثانية، حين كنا ندخل عصر الصورة وثورتها في الإعلام، كان المراقبون يتساءلون عن السر في إعراض الناس عن التفاعل المطلوب مع مشاهد الدم والأطفال القتلى في الثلاجات أو مقاطع انتشال الشهداء والأشلاء من تحت أنقاض البنايات المقصوفة، مشاهد محدودة تم تداولها بكثافة ثم علقت في ذاكرة الأجيال، لم يكن منها أي من هذه الصور.. عوضاً عنها كلنا يذكر محمد الدرة، فارس عودة، مواجهات مخيم جنين وافطار المرابطين المتواضع على الأرض، صلاة محاصري المهد، وذلك الملثم المجهول الموجود في إطار كل مشهد لرشق الحجارة والمولوتوف.

يميل الناس للتعاطف مع صورة المعاناة للأحياء لا الأموات، المشاهد التي تُشعرك أنه ما زال هناك أمل بعيد وخافت لإنقاذ الضحية، وتحفّز في نفوسهم خيالاّ لاجتياز حاجز الشاشة البارد نحو مدّ يد العون لإنقاذ هذا الجريح الذي تسحله قوات الاحتلال في أزقة المخيم، أو الطفل المحتمي بجسد والده النحيل من وابل الرصاص، أو تلك الرضيعة الشهيدة التي ترقد بسلام وسط غطاء أبيض ملطخ بالدم وكأنها خرجت للتو من حمام ساخن، صور الأموات والدم والأشلاء لا تخلق سوى حسرة وعجز يُطفئ كل هذا الحماس لفعل شيء، أي شيء! حتى لو كان تغريدة عاجزة على مواقع التواصل.

الخبراء النفسيون وخبراء الصورة ينوّهون لمثل هذه التكتيكات في خلق التحفيز لدى المشاهد، سيكولوجية المتلقّي تبحث دوما عن صورة تحمل أملا يُخلق من الرماد! عن صورة القهر التي تحمل في باطنها بذرة بطولة…

مشهد رشق دبابة متطورة بحجر تقبض عليه بالكاد يد طفل لا يتجاوز الـ 10 أعوام تخلق ثورة في الأجساد الناضجة والقوية وهي تراقب، ابتسامة طفل أو فتاة وهي تُساق نحو المعتقل من كتبية مدجّجة بالسلاح تخلق ذات الأثر، شتم أو صفع أو صراخ في وجه من يحمل السلاح، مقاتل يحمل بارودة قديمة أو شهيد ارتقى وهو يقاوم ولم تباغته الصواريخ وهو نائم كما في الصورة النمطية.. إعادة صياغة مشاهد القهر والعجز وإبراز البطولة فيها فنّ يحتاجه كل من يسعى لحشد التضامن مع قضيته.

نجحت الهبة الفلسطينية الأخيرة بحشد التفاعل العالمي بالتركيز على هذه التكتيكات، راكمت خبرات النضال السلمي والعنفي لدى الأجيال الفلسطينية إجادة مثل هذا الدور دون الحاجة للغوص في تفسيراته السيكولوجية.

نجح النشطاء أيضا وجلّهم من صغار السن المتصالحون أكثر منا مع تناقضاتهم الذاتية أن يكسبوا أصدقاء لهم من جميع البيئات، لم تقف الاختلافات لا السياسية ولا الدينية أو المبادئية أو تلك المتعلقة بالخيارات الشخصية وال life style في وجه صناعة أصدقاء يجتمعون فقط على فكرة التضامن، لم يهتموا كثيرا بنبش ما هو دون ذلك، هذا الجيل وعي هذه النقطة بحكم واقعه المعقد والمفتوح في آن، استطاع أن يخلق حيز تضامن فلسطيني solidarity zone ينغمس فيه مع كل من يرغب أن يشاركه الدعم، ثم ينصرف الجميع آخر النهار إلى حيزه الآمن safety zone الخاص به وحده ليمارس ما يليق بشخصيته الخاصة وبقية انحيازاته السياسية والدينية والفكرية.

قد يبدو غريبا أن الجيل الجديد كان أكثر وعيا ممن سبقه في فهم أبجديات صناعة الأصدقاء، وإعادة صياغة مشاهد القهر لإبراز البطولة فيها، وهما ألف باء حشد التضامن مع قضيته رغم أنها تجربته النضالية الأولى، كم نحتاج لتعلم هذين الدرسين، وكم يحتاج من يصرّ على كسب الأعداء والتنفير من قضيته برجم اختلافات الآخرين وخياراتهم واضطراراتهم، وتكبيل واقعه الذاتي بمشاهد المظلومية واليأس أن يتسع صدره لمثل هذا الكلام.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات