المقامة السّياسيّة وعنوانها تنبيه أُولي الألبابْ من مَساوِئ لُعْبة الحَلاّبْ

حدّثنا أبو المقعار قال:

ثمّ كان العام العاشر للثورة وهو عام وباء، حيث فُرض على الناس الحظر والاختباء، وتباعدَ الخلاّن عن بعضِهِم البعضَ وكذلك الأقرباءْ، وجُيّشتِ الجيوش من المتطبّبين ومن الأطبّاء، وأُذِّن في الناس بالبوق وبالرُّبُوتْ، أن امكثوا في الديار وفي البيوت، ومن له حاجة يقضيها، فمن الخضار ومن الحمّاص أو من الحانوت. وانضبط أهل افريقيّة انضباط التلاميذ النّجباء، حتّى كاد ينهزم الفيروس وينقشع الوباء. وكانت تلك الموجة الأولى.

وما أن حلّ فصل الصّيف، حتّى أعلنت الحكومة وجوب فتح الاحضان للسائح وللضّيف، ففُتحتْ حدود البلاد برّا وبحرا وجوّا على مصرعيها، وقرّرت لجان العلم والطبّ والفحص إغماض عينيها: فلقد أثبت شعبُ افريقيّة بالبرهان والدليل المناعة، وبات بعد أشهر الحظر يتوق للزّهو وللأعراس وللخلاعة. وعمّ بين الناس العناق والبوس، وانتشر في الأرجاء رذاذ الزغاريط المشحون بالفيروس.

وفي الأثناء غادرت جحافل الزوّار والسيّاح ومعها حكومة الفخفاخ، واستطاب الكوفيد العيش بيننا وجدّ في الافراخ وفي الاستنساخ. وما أن رُفع المصيف، وحلّ الخريف، وعاد النّاس للشارع وللرّصيف، حتّى انطلقت الكورونة في الانتشار وفي التفّريخ. واستصرخ الشعب حكومة الرئيس، أنْ قد مسّنا الضرّ ولم ينفع ثوما ولا هريس. وكانت الحكومة آنذاك في طور التّشكيل، وأحزاب البرلمان شماليل1 ، علا بينهم صوت زغراطة وصراخ بهاليل، ورئيس الدولة بين الخطب العصماء والتفسير والتأويل 2. وكان لكلّ فرقة منهم أهل تهليل وتطبيل، وأخطرهم وأشدّهم أذيّة قوم يقال لهم ذباب، لهم شوكة ومخالب وأنياب، يتناهشون كما تتناهش الضباع والكلاب، وألوانهم مختلفة كألوان الأحزاب، والكلّ يعدّ للكلّ لعبة الحلاّب!

هنا قاطعناه وقد عمّت علينا الدهشة والاستغراب:

- ويحك يا أبا المقعار! لقد لعبنا اللّعب جميعها، ولم نسمع قبل اليوم بلعبة الحلاّب، فأخبرنا عنها حتّى نزداد ثقافة وعلما واستيعاب، وتعلم جيّدا أنّنا من هواة الألعاب.

فأجابنا:

- بوركتم يا أولي الألباب! سأحدّثكم عنها بموجز الخطاب، وبما تقتضيه البلاغة والاسهاب... في اللّغة، أصل كلمة الحلاّب، من حلَبَ يَحلُب ويَحلِب، حَلْبًا، فهو حالب، والمفعول مَحْلوب وحَلُوب. أمّا الحلاّب فهو إمّا الاناء الذي يُحلب فيه، أو مَن صناعته الحَلْب؛ أي استخراج اللّبن بعد شديد خضّ3 وضِرابْ4 . هذا في اللّغة أمّا في الاصطلاح، فلعبة الحلاّب فنّ يتقنه أهل افريقيّة كإتقانهم للمناشدة والامتداح، وخلاصة اللّعبة أن يجذبك أحدهم بمعسول القول في الصباح، لتجد نفسك عند المساء على الضّحضاحْ5 . ومن مهارات لاعبيها أنّهم يسلبون الكلب أسنانه وهو بصدد النّباح، ويبيعون القرد ثمّ يعاملون شاريه بالتّهكّم وبالمُزاح، بعد أن حقّقوا من تلك التّجارة مكاسب كثيرة وأرباح. ومن أكثر اللاّعبين خبرة واحترافا من امتهنوا مهنة السياسة، فاستعملوا زخرف القول ولبسوا لبوس العفّة والكياسة، مستعينين بجيوش من "ذباب النجاسة"، سلاحهم الكثير من قلّة المعروف ومعين لا ينضب من الدناءة والخساسة.

ومن أشهر التجار في هذا المضمار، من باع لشعب بأسره بضاعة "الاستقلال"، فلمّا أخذوا الصندوق وفتحوا الأقفال، وجدوا بقعره ستّة قلال!

ثمّ أتى بعد ذلك من عرض عليهم بضاعة "العهد الجديد"، فعمّت الفرحة وأضحى الحدث يوم عيد، واشتدّ حول البائع التطبيل والتمجيد، وقمع كلّ مشكّك في البضاعة بالنار وبالحديد، وما أن فتحوا العلبة حتّى وجدوا فيها قواريرا أعدّت للتقعيد. ثمّ فتح من بعد ذلك سوق كبير لبضائع قيل أنّها لا تبور، ومنها سلعة البرلمان والدّستور، فلمّا فتحوا الصندوق، لم يجدوا فيه غير لعب صينيّة الصنع، من جنس الفرفور والديناصور.

وجاء من باع لهم بضاعة "الخليفة السّادس"، فإذا بها دُمى وعرائس وقلابسْ! وأصبح العراك والصراع في البلاد حول طول وقصر الملابس.

ثمّ جاء من بعد ذلك من باع لهم حكومة ذات برنامج يروق للشباب وللشيوخ، إذا ما تجلّى، فمن فرط بهائه، شعب افريقيّة بأسره حتما سيدوخ. فإذا بها دولة شقوق وشروخ، وحكم قبائل دغفة وبني ذرّوح.

وآخر البضائع عرضا في السوق، بضاعة البلاغة وكلام للسامعين يروق، يقدّمها للناس فقيه في علم القوانين زاهد مرموق، رافعا للسيف الممشوق، ضدّ التطبيع وبحثا عن كلّ حقّ مسروق. وما أن انتهت سكرة الخطاب، وانطفأ كلّ تلفاز وراديو وبوق، حتّى أصبح الكلام من صنف وعود الإخشيدي للمتنبّي مجرّد بلّوط وحلّوق، والشعب كعادته ينتقل كقطيع النّوق من سوق إلى سوق، ولا يجد بعد طول تجوال بين الحوانيت، وتقليب للسلع، غير الخازوق.

هنا قاطعنا محدّثنا:

- ويحك يا أبا المقعار! ألا يوجد في شعب افريقيّة من أولي الألباب من يوقظه ويبعده عن لعبة الحلاّب؟

فأجابنا بنبرة فيها بعض سخريّة:

- دعكم من الأوهام فهي مبلغ همّ العوام… شعب افريقيّة لا يزال يرفع شعار "يبطا شويّة"… فلقد ظهرت في السوق اليوم "زغراطة"، بكّاءة على الزمن الغابر وعياطة، تبيعهم الحجر والطوب بسعر البطاطا، وأتباعها يلحسون حذاءها الغريب كما تُلحس الجيلاطة، وهم لا يدرون أنّ مصيرهم سيكون على البلاطة، وحياتهم ستستمرّ كما كانت: في النهار سلاطة وفي الليل قماطة.


1- يقال قومٌ شماليلُ: متفرِّقون وثوب شماليل: متشقِّق
2- أي تأويل الدستور.
3- خضَّ السَّائلَ: خَضْخَضه، رجّه وحرّكه
4- من ضرَب البيضَ بالدَّقيق: خلطه ومزجه به
5- وهو ماء قليل لا عمق فيه.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات