مخطئون من يخطّطون لمسيرة 27 فيفري

اختيار التوقيت المناسب عنصر هامّ جدّا في الفعل السياسي والتكتيك السياسي. وتحديد الهدف يكون قبل تحديد الوسيلة لا العكس. كما يجب التساؤل في اختيار الوسيلة : هل تحقّق الوسيلة المتّبعة الهدف المحدّد أم يمكن أن تجرّ الوضع إلى أسوأ ممّا يُرتجى وتوصل إلى أهداف عكسية لما خُطّط له وما يُنتظر أن يكون ؟

لا أعرف حقيقةً إلامَ يهدف من خطّطوا لمسيرة 27 فيفري 2021 ؟ وماذا ينتظرون تحديدًا من مثل هذا التحرّك ؟ وما هي الخطوات اللاحقة ؟ وكيف يثقون في قدرتهم على التحكّم في الشارع تحكّمًا كاملاً وعلى ضمان عدم انفلات الأمور من بين أيديهم ؟

لكنّي ما أعلمه أو ما أتوقّع حدوثه هو أنّ تحريك الشارع في هذا الظرف بالذات، من طرف من يعتبرون أنفسهم أغلبية في البلاد، أمر خطير قد يعود عليهم، هم قبل غيرهم، وعلى البلاد بالوبال !

الساحة السياسية محتقنة جدّا ومآلاتها مسدودة وآفاقها غائبة وسماؤها ملبّدة ومظلمة، فهل سيساهم تحريك الشارع ونقل "المعركة" إليه في تفريج الضغط أم في تفاقمه، في حلحلة الوضح أم في زيادة تأزيمه أكثر ؟

ثمّ إنّ ما وقع الترويج له من شعار رئيسي لهذه المسيرة "مسيرة دعم الشرعية" لا يتوافق مع الوضع الحرج المتأزّم المتدنّي للبلاد ولا هو يعبّر عن عميق وعي بطبيعة الأزمة وتشخيصها ولا عن كبير فهم لمتطلّبات المرحلة ومقتضياتها. فأيّ شرعية تريدون دعمها ؟ وهل هناك شرعية واحدة في تونس ؟ هل تتحدّثون عن شرعية الحكومة المنقوصة ؟ أم عن شرعية البرلمان ؟ وهل شرعية تحالف الأغلبية فيه هي شرعية البرلمان ككلّ ؟ ثمّ خاصّة، ماذا عن شرعية رئيس الدولة ؟؟؟ مهما اختلفنا معه ومهما شكّكنا في قدرته، مُحِقّين، على ملء منصبه والقيام بما تتطلّبه مسؤوليات وظيفة الرئاسة، يبقى مع ذلك هو رئيس الدولة وتبقى شرعيته شرعية تامّة في كلّ الأحوال.

إن كنتم ترمون من وراء تحريك جزء من الشارع إلى عزل الرئيس، فهذا خور كبير ومخاطرة غير محسوبة العواقب. فأنتم طرف في هذه الدولة وتتحمّلون مسؤولية كبيرة في ما وصل الأمر إليه. وما قواعدكم التي تدّعون أنّها عريضة إلاّ جزء من الشعب، جزء من الشارع، ولستم كلّ الشعب ولا تمثّلون كلّ الشارع.

فقد ينزل أيضا إلى الشارع جزء آخر منه في نفس اليوم أو في أيام لاحقة، فماذا أنتم فاعلون ؟؟؟

وإن كنتم، ربّما، تعوّلون على مساندة الأمن الداخلي الذي هو تحت إمرتكم وتسهيل مهمّتكم ومؤازرتكم، فلا تنسوا أن رئيس الدولة يمكن أن يلجأ إلى القوات التي هي تحت إمرته هو أيضًا، أي الجيش الوطني !

وهذا إن وقع لا قدّر الله فسيكون نقطة اللاعودة في حرب أهليّة لا تُبقي ولا تذر ! وتهديم لكل أركان الدولة ومؤسساتها (رغم ضعفها وغيابها شبه الكامل) وعبث صبيانيّ كبير ستتحمّلون تبعاته عاجلا أم آجلا.

صحيح أنّي كنت قد نصحتكم، في حديث مع عدد من قياداتكم سنة 2012، بتحريك الشارع وإسناد ظهركم بالشعب، حين رأيت أنّكم بدأتم تحيدون عن أهداف الثورة وتُعِدّون للتحالف مع المنظومة القديمة وإرجاعها إلى الساحة والتمكين لها، كنت آنذاك ألوم بعضكم وجزءًا من قياداتكم وأحثّكم على مواصلة الثورة والثبات على نهجها، فكنتم تقولون لي بالحرف الواحد "والله يا زبير إنّها ضغوطات كبيرة من قوى إقليمية ودولية كبرى، لا طاقة لنا بها"، وكنت قد قدّمت لكم نصيحة ثمينة لم تريدوا الأخذ بها، وهي أن تحرّكوا الشارع، وكانت لكم آنذاك الأغلبية الساحقة منه بين قواعدكم والأعداد الكبيرة من المتعاطفين معكم من باقي أبناء الشعب، نصحتكم أن تحرّكوا الشارع كي تسندوا ظهركم بالشعب، فتكون ورقة رابحة بين أيديكم تفاوضون بها وتضغطون بها على من كان يضغط عليكم. فتقولون لهم "طيّب، نحن مستعدّون إلى السير في المسار الذي تريدون، لكن انظروا كيف هاج الشعب علينا وسيُسقطنا إن واصلنا في هذا المسار"... فَبِمَ كنتم تردّون حينذاك ؟! كنتم تقولون لي "كيف نحرّك الشارع ونحن في الحكم ؟! من يحرّك الشارع هي المعارضة وليس من هو في الحكم"... وكنت أضحك من تعلّتكم الفارغة، والبعض من أصدقائي من قياداتكم يتذكّرون ذلك، بل منهم من عاش أو مازال يعيش في الغرب ويعرفون جيّدا أن في الديمقراطيّات الكبيرة، ممكن أن يلجأ من هم في الحكم، في بعض الظروف، إلى تحريك الشارع من أجل مصلحة عليا وكسب الرأي العام وتوجيهه وكسب ورقة ضغط في التفاوض…

كانت فرصتكم للخروج من المأزق والاستقواء بالشعب وإسناد ظهركم به وفرض اختيار المسار الثوري، لكنّكم لم تفعلوا وضيّعتم الفرصة التي لم تعد بعد ذلك ولن تعود لكم أبدا…

واليوم، تريدون أن تحرّكوا الشارع، عفوًا، جزءًا من الشارع !!! أقول لكم صراحة لقد فاتكم القطار… فالظرف اليوم غير ذلك الظرف، والوضع غير الوضع، والأزمة غير الأزمة، وشعبيّتكم اليوم غير شعبيّتكم سنة 2012، وحتّى قواعدكم اليوم غير قواعدكم آنذاك، فالكل يعلم أنّكم خسرتم الكثير الكثير ليس فقط من المتعاطفين معكم بل حتّى الكثير الكثير من قواعدكم التي كانت "مسجّلة في دفتر خانة"، حسب تعبير علي العريض… بل حتّى سمعتكم في الداخل والخارج ضُرِبت وضعفت، وكثرت فيكم الشقوق والانسحابات والاستقالات…

اليوم أنتم جسم هرِم مريض، فلا تحرقوا أنفسكم، أو ما تبقّى منكم، والبلاد معكم، بنيران حرب أهليّة تكونون أوّل من يشعل شرارتها الأولى... وأنتم في الحكم !...


*زبير المولهي : أستاذ جامعي و ناشط سياسي

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات