مقامة: مَرصِدُ المَآسي، قبْلَ الاسْتحْقاقِ الرَّئاسِي

Photo

لقِيَنِي جـــارٌ كنتُ أعُدُّهُ ثَقِيلَ الوَطْأةِ وإمَّعَة، بذرَاعيْن -كما أفْنانِ الهَرمَةِ-مُشرَّعة، فأرْخَيْتُ له العِقَالَ، وبادرَ هو صَوْبًا إلى الحَديثِ فقالَ:

سلامًا لا يَلِيقُ إلا بكَ يا عَافاكَ الله، وانْهِ إليَّ بسَامِعَتكَ لأنْبِيكَ بمَا ألْقاه ... أبْشرته –عن مَضَضٍ-خيْرًا، وأكرَهتُ نفسِي على مَا سَأجنِيهِ ضَيْرًا، لذا أجْبَرْتهُ على لفـْظِ كلِمِهِ سَيْـــرًا، فأرْبَحَ لخَطْويَ مَسَافة، وأمْنَعَ عنهُ تمْطِيطَهُ واسْفَافَه... وما إنْ بلغهُ ما بي مِن اشْمِئْزَاز، حتى أسْقطَ ما دَأبَ عليْهِ مِن إلْغَاز، وهَجَرَ جُبَّة السَّلاطةِ والاسْتِفْزَاز.

قال جاري: «لمْ يفُتْــكَ –حتمًا-خبَرُ الانتخابات، وما يَجِدُّ قبْلهَا الآنَ مِنْ شدٍّ وجَذبٍ وإرْهاصَات، فنَشِطَتْ سُوقٌ قاعِدتُهَا "هاَكَ... و... هَاتْ"... شِرَاءُ ذِمَمٍ على الشَّيَاع، ومِنحٌ منْضُودةٌ لسَقَط المَتاع، ولا تسَلْ عَمَّا غنِمَه الأنصَارُ والأتْبَاع... سارَعْتُ بعُسْرتِي لأقدِّمَ عَرْضًا، بعد أن حَفِيَتْ بغْلتِي من التطْوَاف وأنا أنشُدُ قرْضًا، فما ترَكْتُ مَيسُورَ حَال ولا بَنْكًا، غيْرَ عَابئٍ بمَا سأنامُ عليْه بعْدَ ذاكَ ضَنْكًا…

تلبَّدَتِ مِنْ حَوْلِيَ الحَالُ، حتىَّ ضاقَ حَلقُ الأغْلال، وغُمَّ علىَ إدْرَاكُ المَآل، وبتُّ متأهِّبًا لأزَكِّيَ الحَرَامَ عن الحَلال ... وفي خَلْوَةٍ طويلة إلا مِنْ دَرْكِي، وبينمَا كُنتُ أشَحِّذ علىَ الهُمُوم عَرْكِي (1)، مَرَقَ منْ شاشةِ التلفَاز خبَرٌ أقعَدَنِي علىَ وَرِكِي: بعضُ سَاسَةٍ يسْتسْقـُون "البيْعَة" عَلنًا، ويعْرضُونَ لقاءَ كلِّ تزْكِيةٍ ثمَنا، وقد ثقِفْنَاهُمُ بُغَاةً مِمَّنْ امْتصُّوا دَمَنًا... بلغَ بيَ الفُجُورُ حَدَّ مَيْلِي لهؤُلاءِ الجشَاعَى، وتذكرْتُ فاقَتِي فاستدعيت بعْضَ شجَاعَة، ثمَّ أغْلظْتُ لضمِيري أنْ صَهٍ –مُناكِفِي- فالخلاص صَبْرُ سَاعَة…

جمَعْتُ ما في منزلي من بطاقَاتِ الهويَّة، وسَعَيْتُ حَثِيثا إلى نُظَرَائِي فِي البليَّة، أيْ من ضَاقَتْ في الحَيَاةِ ذاتُ يدِهِمْ، ومن لا يطمَعُ أحدٌ في أنْ يحْسِدَهُمْ... جُلاسِي حينَ البَوْح بالفاقة، بكَّاؤُونَ وشحَّاذون حدَّ الصَّفاقة... كانَ شيْطانِي قدْ أنجَزَ الأحْبُولة، وكنتُ أعلمُ أنِّيَ نافِذٌ إلى مَرْسَايَ بسُهُولة... وفعلا تدثرْتُ بردَاءِ الزِّنَةِ والجدِّ، وأخْبَرْتهُمْ أنَّ أمْرًا فيهِ خَيْرٌ كثيرٌ سَيَجِدّ، وأنَّ مَسْؤُولا كبيرًا يَعْرضُ علىَ المَعْسُورينَ المَدَدْ، وأنْ لا اسْتثناءَ يُبْدِيهِ من حَيْثُ الحَالةِ أو العَدَدْ…

انْفَرَجَتْ أسَاريرُ صَحْبي فهبَّتِ الأسْئِلة، وكُنْتُ أبْدِي صَبْرًا وحِلمًا حتَّى أنْهِيَ المَسْألة... ولمَّا ألقُوا ما في سِلالِهمْ، ودَانتْ لي حِبَالُهُمْ، رثيْتُ من جديد حَالِي كما حَالَهُم، وسَحبتهُمْ -غَــرَارَةً-(2) لتوْكِيدِ أقوَالِهمْ... اِلْتمَّ لدَيَّ نيِّفًا وألفَيْ توْكِيل، ولمْ أترُكْ لمُوَكِّلِيَّ فُرْصَة للتَّهْلِيل (3)... فلكُلِّ تبَرُّم أدْركُهُ كنْتُ أفْردُ دَلِيلا قاطعًا، أو بُرْهانا سَاطِعًا، مُذكِّرًا أنَّ فرَجَهُمْ بَاتَ وَاقعًا، وأنَّ المسْؤُولَ -تربَتْ يَدَاهُ- لنْ يَذرَ في فخِذِنَا مَحْرُومًا ولا جَائعًا...".

كانَ طريقِي قدِ انتصَفَ وأنا أسْمَعُ، ووَدِدْتُ أنْ أشْركَ مَعِي المَارَّةِ ليَعُــوا... لكنّ مُحَدِّثِي ورُغْمَ انصِرَافِ القَبُول، أجَّجَ فيَّ مِرْجَلَ الفُضُول، وعَلِمْتُ أنَّني على شفَا بَهْتٍ وذهُول... فضَيَّقْتُ الخَطوَ، وأرْجَأتُ –قانِعًا- العَطْوَ(4)... حتَّى يُنْهيَ كلَّ حَدِيثهُ، ثمَّ سأحَاجِجُ بعْدَ ذَاكَ رَثِيثهُ (5)... قَطَعَ جاري اِنْشِغَالِي، وقد فَضَحَتْ تضَاريسُ وجْهي مَا يَجُولُ ببَالي، فعَادَ وذكَّرَنِي بسُؤالِي: "أمَا زلْتَ مُصِرًّا علَى اسْتِهْجَان تُرْبَتِي، أمْ أفْهَمُ من بُطْئِكَ أنَّكَ اسْتَعْذبْتَ ما في قِرْبَتِي ؟؟" .. قلتُ: "الله أشْهدُ أنكَ كَلِيمٌ مُغَازلٌ، ولو أنَّ ما أسْمَعْتنِيهِ يُنْبئُ بمَهَازل."...

ابتسَمَ الرَّجُلُ عَريضًا، واسْتدْعَى منْ جرَابهِ قَرِيضًا، فأنْشَدَ :

هلْ أقْبَــلُ البُـــؤْسَ عَليَّ دَائــِمَا

أمْ أخْطِفُ اللُّــقْمَ غِلابًا والدُّنَــى؟

ثم اسْتطْرَدَ قائلا: "حَمَلْتُ إضْبَارَتِي (6) وقصَدْتُ العَاصِمَة، أمَنِّي النَّفْسَ برَفَاءٍ تامٍّ وبجَوْلةٍ حاسِمَة... سَألتُ عنْ عناوين منْ رَنوْا لكُرْسِيِّ الرِّئَاسَة، واسْتعْلمْتُ عمَّنْ فتَحُوا بابًا عريضًا للنِّخَاسَة، ثمَّ جَلَسْتُ إليْهمْ بعْدَ أنْ أغْدَقْتُ وعُودًا ورِشَىً علىَ أعْوَان الحِرَاسَة."

صُدِمْتُ فعْلا بمَا بَلغَ مَسْمَعِي، فالرَّجُلُ يعْلَمُ أنَّ ذِهِ حَرْبي وأنَّ دَحْرَ الأزْلام مَطْمَعِي... واضْطرَّنِي سَرْدُهُ إلىَ اللَّبَثِ المِكْثِ، ولو أنَّ للرَّجُلِ تارِيخًا مع النَّكْثِ والنِّكْثِ (7)، فسألتهُ: "ما أظْلَمَكْ... كيْفَ رَضِيتَ بمُجْرمِي الأمْسِ ظَهيرًا ؟؟ ثمَّ سَأسْتَبقُ الحَكْيَ وأعْلِنُ أنكَ سَتُوَليِّ حَسِيرًا..".

قهْقهَ جَاري جَهَرَةً حتىَّ كشَفَ عن لهَاتِهُ، فأوْمَأتُ لهُ أنَّ يُكمِلَ سَرْدَ مَلهَاتِهِ... فاسْترْسَلَ من حَيْثً اِنْتهَى، بعْدَ أنْ عَاجَلنِي ببعْض الأوَامِر والنُّهَى، وعَلِمْتُ أنِّيَ مُطالبٌ بالكِتْمَان وعَدَم الإنْهَاء (8) ... فقال:

"صِدْقًا كُنْتُ بَدْءًا أبُوءُ بجَشَعٍ، ولمْ يَكُنْ لي هَدَفٌ سِوَى مبيتٍ على شَبَعٍ، غيْرَ أنَّ المَاضِي قرَصَنِي فخيَّرْتُ طَرِيقَ المَذْعِ (9)... فعَرَضْتُ عَلىَ طرَائِدِي تَزْكِيَاتٍ بالجُمْلَةِ، وسَألْتُ كلِّ مِنهُمْ مَنَابَيْنِ إثنيْنِ لِقَاءَ الحَمْلة : أيْ لكُلِّ مُزَكٍّ -ضمْنَ قائِمَتِي- مَائة دِينار كمَبْلغ، أمَّا أنا فخمْسَةَ أضْعَافِهِ وهذا دُونَ أجْرِ مُرْزَغٍ (10)... وطبْعًا لمْ ألْقَ مِنْهُمْ إلاَّ بِشْــرًا، حتىَّ إذا كِدْتُ لِفَرَائِسَ عَشْرًا، عُدْتُ إلى أصْحَابِ التوْكِيلاتِ مُبشِّرًا... فقرَضْتُ كلَّ واحِدٍ نِصْفَ مَا حقَّ لَهُ، فقَفَــزَ جُلُّهُمْ رَاضِيًا ليَسْتنْهضَ ما فِي حَقْلِهِ…

أمَّا أنَا فقدْ بَرَقَ لِي فِي الدَّيْجُور بَابٌ، وعَزَمْتُ على الخَوْضِ في انْتِخَابَاتِ مَجْلِس النُّوَّاب، مَسْنُودًا بذاتِ التَّوكيل الرَّسْمِيِّ من المَعَارفِ والصِّحَاب، فقدَّمْتُ ترْشِيحِي ثمَّ أعَلنْتُ الحَرْبَ علىَ تلكَ الذِّئَاب… إذْ نُبْتُ جمَاعَتِي في دحْضِ التزْكِيَاتِ، وأقمْتُ دعْوَايَ مُتَّهمًا هيْئَةِ الإشْرَافِ بتسْرِيبِ المِلفَّات، لشُخُوصٍ بعيْنِهَا خبرَنا لؤْمَهَا لسَنوَاتٍ، وهَا أنذا بعْدَ كلِّ ما صَارَ وما فاتْ، أنْتَصِرُ لأمْثالِكَ وللثوْرَةِ وأنْتظِرُ حُكْمًا بالتَّعْويضَاتْ."

فغَرْتُ عندَ تمَامِ خُلاصَتَه الفاهَ، ولمْ أفقْ إلا ومُحَدِّثِي قدْ أعَارَنِي قَفَاهُ، وبَقِيتُ لأيَّامٍ أبوِّبُ ما قدْ أتاهُ: "هلْ هُو فعْلا قد أدَّى حَسَنًا، أمْ هُوَ الدَّنِيءُ كمَا عرِفناه؟"


شروح :

1- عَرْكِ الدّهْر = حِنكة

2- الغَرارةُ = قلةُ الفطنة للشرّ (ليس عن جهل، بل عن كَرَمٌ وأمان)

3- التهليل = هُنا … النكوصُ والترَاجُعُ

4- العَطْوَ = التناوُلُ وقوفًا (تستعمل للحيوان يقف على خلفيته ليأكلَ من الشجرة) .. مجاز

5- الرثيث = (الرَّثُّ والرِّثَّةُ والرَّثيثُ) هو الخَلَق الخَسيسُ البالي من كل شيء … كلامه رثيث

6- إضبارة = مصطلح إداري حديث يعني مُغلَّفًا أو مِلفَّا يحْوي وثائقَ

7- النَّكثُ والنِّكْثِ = بفتح النون: نَقْضُ العهود – بكسْر النون: نقض الأكسية البالية لتُغزلَ من جديد (مجاز لغزل حديث قديم)

8- الإنهاء = الإبلاغُ عن الشيء وإفْشاؤُهُ (أنهى إليه الخبر أي أبلغَهُ به)

9- المَذْع = الإخبار ببعض الأَمر ثم كَتم البقية، (وقيل مَذَعَ مَذْعًا : أيْ قَطَعَ حديثَا وأَخذ في غيره)

-10 مُرْزَغ = اسم مفعول من فعل "أرْزَغَ" أي احتقرَ واستضعفَ .. وهنا مُسْتضْعَفٌ ومُحْتقَرٌ

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات