الحركة الضعيفة والدولة المستحيلة

الحركة السياسية والمدنية التونسية التي عارضت " الدولة" كانت باستمرار ، وعلى مر تاريخها منذ نشأتها مع برسبكتيف ومشتقاتها والإسلاميين وتطوراتهم ، مجرد مجموعات ضغط لم تتمكن من قيادة التغيير الإصلاحي أو الثوري والحفاظ عليه أن وقع وفرض منتهياته وان كانت قد ساهمت وظيفيا أو عضويا في كل لحظات التغيير السياسي الذي كانت تقرره " الدولة" من داخلها حين يبلغ الاحتقان الاجتماعي أوجه ويستنفذ الستاتيكو السياسي أغراضه وقدرته على البقاء .

التغيير أواخر الستينات من الاقتصاد الموجه والتعاضدي نحو اللبرلة التابعة مع ما رافق ذلك من تغيير في مقومات " النظام " وتوزيع جديد للنفوذ ، والانفتاح السياسي المحسوب أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات مع فترة مزالي، ثم تغيير 7 نوفمبر وأخيرا تحول اربعطاش جانفي، كانت كلها قرارات تغيير ذهبت اليها " الدولة " بنفسها تفاعلا مع تطورات الحراك الاجتماعي والضغط الوظيفي للطبقة السياسية دون أن تكون الحركة السياسية والمدنية المعارضة في قيادة هذه التغييرات أو في طاولة فرض شروطها على الدولة كما كانت تغييرات تذهب اليها " الدولة" في اطار تعاطيها أساسا ، لا مع مناخها السياسي الوطني الداخلي ،بل تفاعلا ومناورة مع سياق دولي دافع لهذه التغييرات حفاظا على وضع الأمان الجيوستراتيجي في الإقليم حين تبلغ التسلطيات العربية وضعا من تهتك المشروعية تصبح فيه عبئا على رعاتها الدوليين .

في عشرية السيلان الديمقراطي بدت الحركة السياسية والمدنية التونسية غداة 14 جانفي 2011 وكأنها قد أصبحت قوة حقيقية إذ أبدت قدرا عظيما من التغول في مصارعة بعضها بعضا وفي ما يوحي أنها أصبحت فعلا تحدد مصير " الدولة " وقراراتها بما أوحى بأنها أصبحت فعلا قوى محددة للخيار السياسي وبدت " الدولة " وكأنها أصبحت فعلا خاضعة ل"الارادة العامة " التي تمثلها القوى السياسية والمدنية المعارضة سابقا لها في الحقبتين البورقيبية والنوفمبرية .

لكن 25 جويلية اكد سريعا ان قوة الحركة السياسية والمدنية التونسية ليست اكثر من وهم ضخمته عملية الكمون التكتيكي الذي اعتمدته " الدولة" المنحنية لعاصفة 14 جانفي وقد تمكنت " الدولة" سريعا وفي بعض الأشهر من فسخ عشرية كاملة من " الاستقواء الديمقراطي " و " الأنفة الشعبية " في التعاطي مع " الدولة " وتبين سريعا بما لا يدع مجالا للشك ان الحركة السياسية والمدنية لم تكن اكثر من عملاق بأرجل من طين .

ظهرت الحركة السياسية والمدنية التونسية في حالة من الوهن الحقيقي والضعف المطلق أمام "الدولة" باستثناء بعض الحراك الرمزي المصمم الذي حاول إنقاذ قدر من سمعة النخبة التونسية المستنيرة حتى لا تبدو فاقدة تماما للحياة أمام " الدولة " بعد عشرية مجيدة من الحرية ، وهو حراك قادته مبادرة " مواطنون ضد الانقلاب" ثم جبهة الخلاص باعتماد شارع ديمقراطي يملك مخزونا بشريا معقولا يضم في غالبيته جمهور الإسلاميين الديمقراطيين لحركة النهضة وحلفاءها من أحزاب الانتصار للثورة والحداثة الديمقراطية مثل مشتقات الأحزاب المناصرة للرئيس المرزوقي وائتلاف الكرامة وعدد من مناضلي اليسار الديمقراطي بقيادة زعيمه الكبير عزالدين الحزقي .

بطبيعة الحال لم يكن هذا الشارع الديمقراطي قادرا لوحده على فرض التفاوض على " الدولة " لاستعادة المسار الديمقراطي خصوصا في ظل الخضوع الوظيفي التام لباقي القوى السياسية والمدنية بحكم الاستقطاب الإيديولوجي مع النهضة وبحكم ما تملكه " الدولة " من مبررات لإيقاف مسار ديمقراطي لم يكن ناجحا بما يسمح بالدفاع الشعبي عنه او قبول " الدولة " باستمراره بعد ان قبلت به في اوج قوة الشارع بعد رحيل بن علي .

الأسئلة الكبرى المفروض طرحها اليوم : لماذا لم تتشكل حركة سياسية ومدنية تونسية قادرة على قيادة فعل التغيير وضمان ديمومته ؟ ماهي العوامل التي تمنح " الدولة " في تونس والعالم العربي هذا المقدار من المهارة في إدارة الضغوط والأزمات والصراعات واستعادة قوتها بعد كل مرحلة من مراحل التغيير الوهمي ؟ لماذا تبدو " الدولة " العربية وحتى وهي في اضعف لحظاتها واهتزاز شرعيتها ومشروعيتها اكثر قوة من الحركة السياسية والمدنية المعارضة لها ؟ .

دون جواب على هذه الأسئلة سيبقى التحديث السياسي بالقوى الوطنية في العالم العربي امرا صعب المنال وستبقى الدولة الديمقراطية دولة مستحيلة اذا استعرنا عبارة حلاق .

الدكتور عبد اللطيف الهرماسي ناقش تدوينتي الأخيرة حول " قوة " الدولة وضعف " الحركة السياسية "

وتعميما للفائدة اضع بين ايديكم تعليقه المطول الذي تفضل به على جداري …سي عبد اللطيف هو استاذنا المحترم استفدنا من تجربته السياسية والفكرية حين التقينا على امتداد سنوات في عضوية المكتب السياسي للحزب الديمقراطي التقدمي وقد كان باستمرار من مناصري بناء الكتلة التاريخية او الالتقاء الديمقراطي والوطني من اجل الانعتاق والتحرر بعيدا عن عقلية الاقصاء والاستئصال والفرز الايديولوجي وكان احد اهم اصوات المراجعة والتجديد في اليسار الاشتراكي التونسي فضلا عن مساهماته المتميزة في اختصاصه الجامعي في علم الاجتماع السياسي …ليس من المهم ان نتجادل في برج عاجي ولكن يهمني دوما ان اضع التعاليق المهمة في موضع بارز ليشترك في النقاش معنا من اراد

قال سي عبد اللطيف الهرماسي في تعليقه :

Photo

رغم وجاهة الأسئلة التي طرحتها يا صديقي وخاصة ما يتعلق بقدرة الدولة على المواجهة و الاستمرار في وجه الحركات المطالبة بالتغيير الى جانب عدم قدرة الأطراف السياسية المعارضة على المضي حتى النهاية في مشاريعها وفرض التفاوض على الدولة لاستعادة المسار الديمقراطي فإني أرى أن عناصر الإجابة الصريحة أو الضمنية التي قدمتها قفز ت على الديناميكية التاريخية و لم تعتبر تغير السياقات في الجانب الأول وانها لا تخلو من اختزال وانحياز في قراءة المشهد سواء لما بعد الثورة أو لما بعد 25 جويلية .

بخصوص الدولة أول سؤال ينبغي طرحه هو كيف تشكلت الدولة الصلبة والتسلطية تحت قيادة بورقيبة وابرز المقربين اليه من دستوريين -سياسيين ونقابيين وكفاءات بيروقراطية مدنية - وكيف بنت الجهاز الأمني والعدلي الصلب الذي ظل وفيا لها حتى عند مرض ثم شيخوخة بورقيبة وصولا الى حكم بن علي. هذه المرحلة عرفت ما سميتها في كتاباتي الدولة التسلطية وبخصوصيات تجعلها متميزة عن التسلطية العسكريتارية بباقي الأنظمة الجمهورية بالبلاد العربية. وقد بينت بما في ذلك في حديثي الأخير لقناة الزيتونة أن الثورة التونسية صدعت بناء هذه الدولة ولم تسقط فقط النظام وأننا اضحينا إزاء ما أسميتها بالدولة العاجزة التي تزامنت مع إقامة منظومة الحكم الديمقراطية الليبيرالية بما صاحبها من تضخم للاهتمامات السياسية وبمن يسير ويحكم وكيف ومع من تتم المحاصصة الخ.. على حساب الاستجابة لما من أجله تمت انتفاضة الشباب والمناطق المحرومة من التنمية .، وبما أتاح المجال لصعود السخط وصعود الشعبوية المعادية للديمقراطية الليبرالية .

وهكذا فنحن إزاء سياقات تاريخية مختلفة ورهانات مختلفة وأساليب تعاطي مختلفة ولم يكن للأجهزة الصلبة للدولة نفس الحضور والنفوذ ولا نفس السلوك . وقد أوضحت أكثر من مرة أن الجهاز الأمني كان باستمرار طرفا في القمع وانه ثأر بمناسبة 25 جويلية مما حصل له بعد الثورة بينما الجيش لم يكن طرفا في القمع زمن بن علي ولكنه تضامن مع قيس سعيد بعلاقة بالعجز الذي ذكرت للدولة ككل . باختصار لم تكن الدولة ذلك الجسم اللاتاريخي و الذي لا يتغير والذي صورته في تدوينتك .

من ناحية ثانية أتحفظ بشدة على تصويرك اللوحة التي قدمتها عن المشهد ما بعد الثورة وخاصة ما بعد الانقلاب ومواقف مختلف مكونات الحركة الديمقراطية في تصوير اختزالي ومتحيز للغاية اغدق الثناء على "أحزاب الانتصار للثورة والحداثة الديمقراطية " ؟ الخ … من إسلاميين ومؤتمر ومشتقاته وائتلاف الكرامة وتجاهل بل رذل غيرها ومن بينها مساهمة الحزب الجمهوري ، وهو تقديم بعيد كل البعد عن الموقف النقدي المطلوب إزاء مختلف الأطراف دون استثناء.(انتهى تعليق سي عبد اللطيف )

الصديق السياسي والوزير الأسبق سي فوزي عبد الرحمان يتفاعل بدوره مع تدوينتي بتعليق متميز عليها ..أنشره في ما يلي تعميما للفائدة ..سي فوزي رجل خبر الدولة من داخلها وكان احد الفاعلين من الصف الأول في العشرية وعبر بوضوح بعد خمسة وعشرين عن رفضه لإيقاف مسار الانتقال الديمقراطي وكان من دعاة إلتقاء القوى السياسية للنضال من اجل استئنافه دون إقصاء أو فرز إيديولوجي :

Photo

تحيلني تدوينتك للتفكير مجددا في منظومة الحكم منذ الإستقلال إلى اليوم و التي بقيت باستثناء عشرية الإنتقال الديمقراطي الذي أجهض من طرف رئيس هو ثاني رئيس أنتخب في إنتخابات شعبية بعد الباجي.

منظومة الحكم هذه تعتمد على رئيس بيده كل السلطات و تسنده القوة الصلبة الأمنية خاصة فالمؤسسة العسكرية بقيت على نوع من الحياد الحذر بإستثاء وحيد في عملية 25 جويلية و التي إنخرطت في التغيير و حتى المحاولات التي وقعت منذ ذلك التاريخ إلى اليوم بجرها في إنخراط كلي باءت بفشل ظاهر لعل من أهم مظاهره عدم إنخراط مجلس الأمن في ما يسمى بعملية الإشراف على الصلح الجزائي و الذي لم نعد نسمع عنه شيئا.

مع القوة الصلبة الأمنية كانت منظومة الحكم تعتمد كذلك على القوة اللينة و هي الإدارة مع إختلاف جوهري بين ما قبل 2011 و ما بعد 2025.القوة اللينة قبل 2011كانت تتكون من جسم واحد هو الحزب/الإدارة و مع إستثناءات تعد على أصابع يد واحدة كان وزراء الحكومة من صلب ذلك الجسم .. بينما القوة اللينة بعد 2025 تشكلت من الإدارة من غير أي غطاء أو غلاف سياسي. و هذا الإختلاف الجوهري الأول.

منظومة الحكم قبل 2011 كانت تشتمل في الحلقة الثانية المنظمات الوطنية الأربعة (العمال، الأعراف، المرأة و الفلاحين) و التي وقع تدجينها و تهميشها بعد 25 جويلية و هذا الإختلاف الجوهري الثاني.

سقطت منظومة بورقيبة من أجل صراع على السلطة لخلافة الرئيس و سقطت منظومة بن علي على وقع هزة إجتماعية لم تكن لتسقطه لو لم تخذله قواته الصلبة و عطاؤه السياسي للقوة اللينة أي الحزب الحاكم مع التذكير أن الإدارة إختارت الحياد و عملت على تواصل المرفق الإداري من غير إنخراط فعلي أو عداء صريح.

في 25 جويلية. إنتخابات 2024 الرئاسية شهدت إنخراطا طوعيا للإدارة الفاعلة في العملية السياسية و هذا تحول هام في منظومة الحكم.

ما ينبغي قوله عن القوى السياسية المعارضة هو أن التيارات الفكرية الثلاث الهامة المكونة لها و هي اليسار بتركيباته المختلفة و الإسلاميون و الدساترة كانت لها صراعات إيديولوحية منذ الستينات و السبعينات في الجامعة التونسية و حتى عندما تحول الطلبة إلى فاعلين في الحقل السياسي حملوا معهم ذلك الإرث الخلافي بل ورثوه للأجيال بعدهم و هذا ما نشاهده اليوم بكل وضوح.

لم تتغير القناعات و لم تشهد تلك القراءات أي نوع من أنواع القراءة النقدية أو المراجعة الفكرية بالرغم من تغيرات جوهرية شهدها العالم في نصف قرن إذا إستثنينا بروز حركة ديمقراطية إجتماعية يسارية ضعيفة و من غير حركة فكرية تسندها و تعطيها بعدا حضاريا أو إيديولوجيا مما جعلها هشة و جعل تأثيرها الشعبي محدودا جدا.

و لعل الصراع اليوم حول الإتحاد العام التونسي للشغل بين مناصريه و منتقديه يجد تفسيره في هذا الشرخ الإيديولوجي خاصة بين اليسار و الإسلاميين خاصة (و هو إختزال أعترف بمحدوديته نظرا لهذا المجال الضيق للنقاش). الخلاف الخطير ليس في إختلاف المرجعيات و إنما في الدغمائية المصاحبة و التي تعتبر أن الحق كل الحق من جانب واحد و أن الشر كل الشر في الجانب المقابل.

و لهذا فإني أعتبر بكل تواضع أن الصراع حول الديمقراطية اليوم هو جوهر الصراع و خاصة حول تجديد عقد إجتماعي بين كل المدارس الفكرية المختلفة و بين كل المكونات السياسية و الاجتماعية حول إيجاد سبل العيش السلمي المشترك و التداول السلمي على السلطة بهدف إعطاء السياسة بعدها النبيل ألا وهو الإعتناء بالشأن العام و تحسين ظروف العيش بخلق ثروة كافية و مستديمة و إدماجية كما لم نستطع تحقيقها منذ عقود.

في هذا الإطار يتنزل النقاش حول الدولة و أجهزتها الصلبة و اللينة و دورها في العقد الإجتماعي و في تحديد طموح لهذا البلد : طموح يتعدى الحدود لأخذ مكان في هذا العالم المتغير بسرعة لن تجعل لنا من خيار : إما الإندماج و أخذ دور فيه أو الاضمحلال الحضاري.

هو نقاش عقلاني لنخب البلاد قبل أن يكون مطروحا على عموم المواطنين المدعوين بأن يكونو صوت الإرادة الشعبية الحرة.

تحياتي.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات