حول الصراع القومي الاسلامي في تونس

Photo

الان، وبعد عشر سنوات من المسار الديمقراطي العسير، نستطيع ان نقول مُطمئنين بان مشكل تونس هو فكر سياسي ورثته العائلات السياسية، وهو اعدل الاشياء قِسمة بينها. يقوم هذا الفكر على التنافي والاقصاء ووهم امتلاك الحقيقة وتخوين المُخالف وعدم الاعتراف بشرعيته كشريك سياسي. ورثت النخب السياسية هذا المنطق عن الدولة الوطنية اول نشأتها بعد ذهاب الاستعمار المباشر.

عامل حزب الدستور القوميين بوصفهم خطرا وجوديا يريد ان يربط مصير تونس بالجزائر وبالمشرق العربي ويرفع شعار "الامة العربية" وهو امر يتنافى تماما مع فكرة "الامة التونسية"، اما الإسلاميون فقد عوملوا بوصفهم شرا مُستطيرا يهدد علمانية الدولة ومدنيتها ويرفع شعار "الامة الاسلامية". إذا اضفنا الي هذا الصراع العمودي صراعا افقيا بين القوميين والاسلاميين يتغذى من تجارب تاريخية تبدأ من حادثة المنشية والصدام الناصري الاخواني مرورا بالمسالة الليبية ووصولا الي المسالة السورية، فإننا نكون ازاء جبهة داخلية على غاية من التفكك والصراع، وهو امر لا يسمح بأية عملية بناء او نهوض.

ستحوم اطياف الماضي وكوابيسه على اية محاولة للعمل المشترك، وسيسعى الجميع لتعطيل الجميع وتضيع المصلحة العامة. ولقد استغل اعداء الاصلاح واعداء الديمقراطية، سواء كانوا قوى خارجية ام لوبيات داخلية، هذا الصراع ووظفوه لصالحهم في عملية تعطيل المسار الديمقراطي.

قبل ان نقترح حلا لهذا الصراع بين القوميين والاسلاميين في تونس،علينا ان نشير الي نتائجه الكارثية: ستبقى التجربة التونسية هشة على الدوام وتعاني من عدم الاستقرار الحكومي والاجتماعي وهو امر اصبح يستنزف صبر الناس على المسار الديمقراطي ويهدد بعملية نكوص خطيرة قد تعيدنا الي الوراء. ثانيا، سيترك الصراع القومي الاسلامي انطباعا لدى الناخب بان القوى السياسية التي جاءت بعد الثورة هي قوى لا تصلح للحكم وغارقة في صراعاتها التاريخية، وبالتالي فان القوة السياسية الوحيدة القادرة على الحكم هي المكون الدستوري-التجمعي.

اخطر من هذا كله: سيدفع الصراع كل طرف الي سباق محموم من اجل الاستقواء على الاخر، فيدير تحالفات مشبوهة سواء مع الفساد او مع قوى فاشية او مع اطراف خارجية، وهو مأسوف يؤثر على مصداقية كلاهما لدى المواطن الراغب في الكرامة والسيادة ومكافحة الفساد.

اعتقد انه لا مفر للتيار القومي، ممثلا في حركة الشعب في تونس، والتيار الاسلامي ممثلا في النهضة، لا مفر لهما من الحوار واكتشاف المشتركات والعمل معا ولو بسقف انتظار بسيط.سيقول كل طرف "لقد جربناهم.." ويذكرنا البعض بالحوار القومي الاسلامي وكيف لم يلتزم به الاخوان في مصر، ويذكر الاخر بتجربة الحكم بعد انتخابات 2019، ولكن لا مفر لهذين التيارين من مصالحة تاريخية، إذا كانوا فعلا جادين في خوض معركة النهوض ومواجهة تيار التطبيع. واعتقد انهم ذاهبون الي ذلك بقوة الاحداث وقوة التاريخ، وأستطيع ان استدل على ذلك وفق النظام الحِجاجي التالي:

اولا، ماهو البديل عن الحوار والتعايش؟ انه الصراع الذي لا افق له والتّنافي الابدي الذي لا مخرج منه، والذي انطلق منذ حادثة المنشية، ولم نجنِ منه شيئا غير مزيد من الضعف، وخرج الاسلاميون والناصريون من المشهد وتصدره تيار الاستسلام والتطبيع والفساد.

وحتى نعرف عدمية خيار الصراع وفضائل التعايش على قاعدة المشترك المواطني علينا ان نلاحظ ان خيار التّنافي، وما يقوم عليه من وهم احتكار الوطنية او التقدمية، سيجعل الصراع لا يقف عند حد، فيمتد لكل الاطراف ويصبح مُعمما، فنكون ازاء حرب الكل ضد الكل، وذلك لان الخلاف العقائدي بين القوميين في تونس واليسار او المكون الدستوري-التجمعي أكثر حدة منه بين القوميين والنهضة (انظر عصمت سيف الدولة "عن العروبة والاسلام''.).

ثانيا، سيجد كل من القوميين والاسلاميين أنفسهما امام محور يتشكل بسرعة وقوة وهو محور التطبيع ومعاداة اشواق الشعوب في التحرر والكرامة والديمقراطية، وهو محور يعادي القوميين والاسلاميين على حد السواء. انه محور يعادي المقاومة ويعادي مطلب الديمقراطية في نفس الوقت، ولا اعتقد ان لا يدفع ذلك كلا الطرفين الي مزيد التقارب والحوار والعمل المشترك.

ثالثا، ان كلا التيارين هما حركات نهضوية في أصل نشأتهما، بمعنى انهما نشآ استجابة للسؤال الحارق "كيف ننهض؟''، وكان ذلك سؤالا ناتجا عن استفاقة العرب على فاجعة الاستعمار المباشر وواقعة التخلف العلمي والتقني إزاء الغرب (انظر علي اومليل "الاصلاحية العربية والدولة الوطنية"، كذلك محمد القاضي وعبد الله صولة "الفكر الاصلاحي عند العرب في عصر النهضة''). ان عملية النهوض، وبعد التجارب المريرة للدولة الوطنية، لا تكون الا مشروعا مجتمعيا ينخرط فيه الشعب بقيادة كتلة تاريخية اقتعنت ان النهضة مشروع لا يمكن ان يقوم به فصيل سياسي واحد. هذه الكتلة التاريخية هي ماسوف يسمح بوجود وحدة وطنية تدافع عن المشروع وتحميه وتتحمل اعباءه واكراهاته، وبدونها يقع الاستفراد بمن يتصدر السلطة بمفرده مهما كانت عبقريته وصدق نواياه.

رابعا،يبدو ان مراحل الانتقال الديمقراطي تسير وفق الوتيرة التالية: مرحلة الصراع بين النخب حول شكل نظام الحكم في الدولة، ثم مرحلة المفاوضات وتبني قواعد النظام الديمقراطي التي تضمن لكل الاطراف حق المشاركة، واخيرا مرحلة "التعوّد" اي قبول الفاعلين السياسيين للمشترك المواطني كقاعدة التقاء ينطلق منها الجميع (انظر علي الدين هلال "الانتقال الي الديمقراطية"،عالم المعرفة). ماهو المُشترك المواطني؟

هو الحد الادنى من القيم التي يتقاسمها القوميين والاسلاميين، والتي تشكل قواعد العقد الاجتماعي التي لا يمكن النزول دونها او الاخلال بها،مثل السيادة والعدالة الاجتماعية ورفض التطبيع والاحتكام الي الصناديق والتمسك بالديمقراطية وحرية الافراد في التفكير والاعتقاد والتعبير.

بقيت كلمة نسوقها لأصحاب العقول العاجزة والمتشائمة، والمولعة بالشتائم والتهارش وكيل التَّهم، التي يمكن ان ترى في لقاء القوميين والاسلاميين يوطوبيا مستحيلة: اجعلوا من قبائل التوتسي والهوتو قدوة لكم ومثالا، فبعد حرب اهلية ذهبت بمليون ضحية هاهي راوندا تُزاحم أعتى اقتصادات العالم في نِسب النمو وفي جودة النقل والتعليم والصحة، وتبعث بقمر صناعي الي الفضاء.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات