الجريمة والعقاب

الشماتة فعل غير أخلاقي لا يمكن تبريره، لكننا في الحالة التونسية بالذات نتفهم أسبابها جيدا، فالتونسيون ما أصبحوا على هذه الدرجة المتقدمة من السوء لولا الإحباط الناتج عن إفلات المسؤولية السياسية من العقاب، وشماتة البعض من نقابي متقاعد متهم بالمضاربة والاحتكار ليست إلا ردة فعل على مواقفه السياسية والنقابية حتى وإن كانت قد حدثت في الماضي، لأن جانبا مهما من الرأي العام يعتقد أن التصلب الذي أبداه اتحاد الشغل في ممارسة الحق النقابي في العشرية الفاصلة بين 2011 و2021 هو أحد مظاهر التغول واستضعاف الدولة ومن العوامل التي أدت إلى إجهاض الانتقال الديمقراطي!

الشماتة قد تتحول تدريجيا إلى وصم لا يمكن للوعي الجماعي أن يتخلص منه، فعدد كبير من وزراء عشرية الانتقال الديمقراطي مطلوبون اليوم للعدالة في قضايا مختلفة، وتمارس ضدهم أقسى أشكال الشماتة، ولا يتعاطف معهم أحد بسبب مواقفهم السياسية. والشامتون غالبا لا يكترثون بهذه القضايا، حتى لو انتهت إلى عدم سماع الدعوى، المهم التلذذ والاستمتاع بالمعاناة التي سيعيشها هذا السياسي أو ذاك خلال فترة التقاضي. لخص هذه الشماتة أحد المقربين من الرئيس بقوله ذات مرة أمام الكاميرا وهو يسير خلف موكب رئاسي يمرّ أمام جامع الزيتونة: "خليهم يذوقوا المشي والجي على المحاكم"!!

وزراء بن علي أيضا وجدوا أنفسهم بعد سقوط النظام الذين كانوا من أركانه المتينة يترددون على أروقة المحاكم مغلولي الأيدي في قضايا أغلبها تافهة بلا معنى، وكان الفصل 96 من المجلة الجزائية وحده كفيلا بفتح أبواب السجن على مصراعيها أمام أي موظف عمومي سابق فضلا عن تقييد حركته، وقد علّق على ذلك رئيس حركة النهضة عندما كان في أوج قوته أمام جماهير حزبه الشامتة: "وتلك الأيام نداولها بين الناس". والحق أن شماتة النهضة في التجمعيين كانت انتقائية، عملا بقاعدة (من دخل دار أبي معاذ فهو آمن).

ورغم أن الكثير من المسؤولين السابقين الذين جرجروا إلى أروقة المحاكم لسنوات طويلة نالوا أحكاما بالبراءة بعد استيفاء كل أطوار التقاضي فقد أجبروا كلهم على مغادرة الحياة السياسية بلا رجعة، تاركين مناصب هم أجدر بها من غيرهم لهواة جدد سيمارسون السلطة بأسلوب التجربة والخطأ مطالبين الشعب بأن يصبر عليهم ويمنحهم فرصتهم كاملة على أن يتلذذ في الأثناء بمعاقبة من سبقهم في المسؤولية، ألم يقل رئيس الجمهورية لرئيس الحكومة عندما اختار في فريقه مسؤولين سابقين: هؤلاء لا مكان لهم في الدولة!

عقلية التشفي السائدة لم تعد ممارسة فردية معزولة أو سقوطا أخلاقيا لدى قلة من الناس فقط، بل أصبحت ثقافة سائدة وبرنامج حكم، لا سيما أنها قد جرى تطويرها وتأسيس أركان متينة لها والارتقاء بمضامينها خلافا لما كان عليه الأمر في الماضي. فعندما أرادت بطانة الرئيس بورقيبة التشفي في الوزير الأول محمد مزالي بعد عزله اتهمت عائلته بالاستيلاء على بعض الحليب والزبدة! أما الآن فقد أفرغت الساحة السياسية في قضايا تآمر على أمن الدولة ويلاحق مواطن أمام القضاء بتهمة (تغيير هيئة الدولة) ويحكم عليه بالإعدام، ويقتضي منا تنسيب الأشياء أن نعتبر تهمة احتكار البطاطا (وهي بمثابة النيران الصديقة) أشبه بمخالفة مرورية بلا معنى لا تستحق كل هذه الشماتة.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات