انتخابات 2019 كانت تتويجا لحالة "استثنائية" شارك في صناعتها كل فاعلي السياسة في تونس، بأقدار متفاوتة ومن مواقع مختلفة، على امتداد تسع سنوات من الانتقال/التجريب الديمقراطي، حالة يمكن عنونتها ب"الاستهتار بالسياسة" والتنكيل بالديمقراطية. وكان واضحا أن تلك الانتخابات ستكون ذروة المأساة وستنتج مأزقا سياسيا حادّا بالنظر إلى صعود مرشّحيْ ضرورة إلى الدور الثاني، ل فقط لا تتوفّر فيهما أدنى شروط السياسة، بل يمثّلان إهانة لفكرة السياسة.
ثم كان أن تمخّضت تلك المأساة عن مأساة أكبر تمثلت في إقدام الغرفة الأكثر جاهزية شجاعة من غرف صناعة السياسة في الدول الفاقدة لمقومات السيادة على مغامرة الانقلاب العنيف على مشروع/حلم الديمقراطية يوم 25 جويلية 2021.
بعد ستّ سنوات من مأساة انتخابات 2019، تونس مرشّحة لتحوّلات نوعية في أفق منظور. ملامح هذه التحولات:
* الغرفة التي اغتالت الديمقراطية وجدت في شعبوية خطاب سعيد واجهة مناسبة جدا لتمرير جريمتها. فكان أن ارتكس خطاب السياسة إلى شعارات مزرية من قبيل البناء القاعدي والشعار الفضيحة "الشعب يريد" الذي تمت ترجمته إلى أطر جمعت "عوامّ السياسة" في مجلس نوّاب ومجالس محلية وجهوية وإقليمية وشركات أهلية كاراكوزية لا معنى لها في دورة الاقتصاد الفعلي.
هذه الواجهة الشعبوية الشكلية، المكلّفة بالتغطية على الحكّام الفعليين، تسير حتما نحو التآكل رغم محاولة "النظام" الإطالة في عمرها بعطاءات مالية ورشاوى تقدّم لانتهازيين صاروا "منعوتين" في محيطهم بأنهم مجرّد "أعضاء شُعَب" تجمعية.
الواجهة الشعبوية، برئيسها ومجالسها، فقدت وظيفيّتها وستصبح قريبا هدفا لأول موجة غضب شعبي شروطه تعتمل وتتراكم.
* الانفصال الكامل بين الخطاب السياسي الرسمي وما تمارسه أجهزة الحكم يؤكّد أننا أمام "حالة حكم" غير طبيعية.
سعيد يتبنى خطابا سياديا تجاه الغرب والمؤسسات المالية الاستعمارية، لكنه يُمضي عمليا اتفاقيات بخصوص المهاجرين مع إيطاليا ويلتزم بها. اتفاقيات ذات جوهر استعماري عنصري يتناقض كليا مع ما يرفعه من شعارات.
سعيد يتبنى خطابا اجتماعيا شعبيا منحازا للمؤسسات العمومية والتشغيل، ولكن كل "حكوماته" ملتزمة عموما بإملاءات صناديق التمويل الأجنبي.. بالرفع الفعلي والمموّه لدعم المواد الأساسية وبخفض كتلة الأجور ووقف الانتدابات في الوظيفة العمومية بل والتسريح المكثّف للموظفين تحت عنوان التقاعد المبكّر دون تعويض المسرّحين بما يهدد قطاعات حيوية، كالتعليم، بالانهيار التام.
سعيّد يقول أنه جاء ليوقف كارثة الارتهان لسياسة التداين من الخارج، لكن "حكوماته" المتعاقبة أغرقت البلاد في سياسة تداين غير مسبوقة وبشروط أقرب إلى النهب.
هذا الانفصام الفجّ بين واجهة حكم شعبوي تتبنى خطابا خارجيا سياديا راديكاليا وخطابا داخليا اجتماعيا شعبيا، وحكم فعلي خاضع للغرب في خياراته السياسية والاقتصادية.. لا يمكن أن يستمر طويلا لأنه انفصام مرَضي.
* بوادر أزمة اجتماعية شاملة: تضخّم اقتصادي رهيب نتج عنه ارتفاع جنوني لتكاليف العيش مقابل تجميد صارم لأجور صارت تثير الرثاء.. وتوقف الاستثمار.. وانسداد أبواب الهجرة.. بما يعني توسيع طبقة الفقراء والمهمشين اليائسين من كل أمل في تحسّن أوضاعهم.
تزامن هذه الأزمة الاجتماعية الشاملة مع الإلغاء الفعلي للحقوق النقابية والتجميد العملي لاتحاد الشغل يعني أن أي انفجار شعبي سيكون من خارج كل أطر الضبط الاجتماعي مثلما كان الأمر خلال أحداث 2011 التي أطّرها اتحاد الشغل في أغلب جهات البلاد، وطبعا من خارج أطر الضبط السياسي بعد ضرب الانقلاب للسياسة والأحزاب.
* توقّعي: في غياب مشروع سياسي وطني معارض/بديل يتوفّر على حد كافٍ من المصداقية و"الطهارة السياسية والأخلاقية" التي لا تحيل من ينظر إلى وجوه رموزه إلى ماضي "الاستهتار بالسياسة"، ستلتقط غرفة أخرى جاهزة ومقتدرة خيوط اللعبة، وسط بهتة الجميع، وتستأنف بالتونسيين رحلتهم السيزيفية إلى فكرة السياسة.
الفكرة المعجزة!.. تبا.