محاولة لفهم ظاهرة العنف-بدون مراجع ولا احصائيات

العنف: هو اقتصار المسافات اللازمة لاستقرار العلاقات ضمن النظام الاجتماعي. ومنه، فرض الاسراع في الاكل على الطفل، فهو عنف. قطع الكلام لاحد لم يكمل حديثه، فهو عنف. فرض نفس المسافات بين الناس باختلاف مواقعهم (اب، ام، اخ، اخت، صديق، زميل، معرفة عابرة، مربّ، معلّم، تاجر) فهو عنف.

التدخّل في شؤون الغير، فهو عنف. انتقاد الناس في ذواتهم على آرائهم او مواقفهم، فهو عنف. تغيير العرف الاجتماعي بصدمة خارجية حادّة، فهو عنف. دوْس القيم المجتمعية في الفضاء العام، فهو عنف. تعدّي الاشارة الحمراء في الطريق، هو عنف. افتكاك اغراض الناس، هو عنف. الحصول على مراتب في الشغل بدون المرور بالمراحل وقانون اللعبة المتفق عليها، هو عنف. تجاوز القوانين المعمول بها للحصول على منفعة، هو عنف. رفع الصوت قصد اهانة الغير، هو عنف. اخذ القرار للآخرين وعوضهم، هو عنف.

فرض راي على الاخرين بدون المرور بمرحلة اقناعهم، هو عنف. الحكم على الاخرين بالضلال، هو عنف…

اولا: ينتشر العنف عادة عندما تغلب حجّة القوة على قوة الحُجّة وخاصّةً في الازمات الاجتماعية. ومنه، عندما :

(1) تضعف الدولة، اي انّ مؤسساتها يتدهور أداؤها ودورها في الاستقرار الاجتماعي والسلم الاجتماعية التي تفضي في آخر المطاف الى حماية الفرد في حرمته الجسدية، وممتلكاته، وقِيمه، وأهدافه،

(2) تتغيّر وظيفة الاسرة في بنيتها من كيان يراوح بين (أ) القيم كمراقبة ذاتية للمسافات، و(ب) الحفاظ على التكاثر المادّي للثروة كشرط مادّي لإعادة التوالد الاجتماعي، الى كيان يغلّب جانبا على جانب بحيث تنعدم مسؤولية الانتماء الى المجموعة وقيمها.

ثانيا: (1-2) اعلاه يؤدّيان الى،

(1) عدم تحديد منطقة الفضاء الخاص من الفضاء العام وبالتالي بين خصوصيات الفرد من جهة وملامح العامّة من جهة أخرى. وانّه لمن العنف ان يُطوّع الفردُ مكونات الفضاء العام الى متطلباته الشخصية فيستحوذ عليه وينفرد به وفي ذلك نفي للآخر.

(2) تتعوّد العين وخاصّة منذ الطفولة حيث كل الاجهزة النفسية والبدنية في طور استيعاب النظام اللغوي السائد (من كلام، ولباس، وتحركات في المساحات، ومن قواعد في اعتبار المسافات، ومن مآلات الاحداث في المجتمع،..) بتمظهرات عنيفة، فيمرّ ذلك من مجالات القبول (Champ d’acceptabité) حتى ولو كان الامر في البدء مرفوضًا، الى مجال الجدوى والتطبيع (Champs de réalisabilité) وذلك في الاطر التي يعتادها الفرد من البيت وما يستهلكه من احداث، الى وسائل النقل العمومي، الى المدرسة وما حولها، والى التجمعات المحلية من حارة ودور ثقافة ومناسبات وغيرها من الشبكات.

ويكفي لشابّ ان يشهد في مسلسل تونسي ذلك الذي لا يقوم بفروضه الدراسية ثم في آخر حلقة ينجح في الباكالوريا، او ذلك الذي ينحرف خمرا وسرقةً وملاهي ليلية ومخدرات والمتاجرة بالأعضاء، ويرفع صوته في وجه ابيه، وهو البطل في المسلسل، ويكفي ان تقتصر "التربية" على "جملة من التعليمات" حيث المعلم او الاستاذ يفتقد للظروف المادية والمؤسسية لدوره، ويكفي ان تنقلب معايير النجاح في المجتمع، فيصبح المعلّم او الاستاذ افقر من الذي هجر الدراسة مبكّرًا بدون معرفة اصل ثرائه،… ويكفي ان يصبح صناع الرأي في اغلبهم اضعف الناس وجاهةً وعلماً وأخلاقًا، ولا يعاقبهم الفضاء العام.. ويكفي ان يكتسي الخطاب الرسمي او خطاب النخبة السياسية من الفاظ عنيفة في الفضاء العام، ويكفي شيء من ذلك لكي يرتدي الشاب في لحظة وحيدة رداء العنف كوسيلة للتعبير واخذ حقه بيده…

(3) الخلط في المفاهيم، بين الصراحة والوقاحة، والنقاش المجدي والجدال العقيم، وحرّية التعبير ونفي الاخر، والمصلحة الخاصة والعامّة، والحداثة والتقدم والوسطية من جهة والتأخر والتزمّت من جهة أخرى، الشكل والمضمون، والاعتزاز بثقافة وقيم الاخرين والحكم على الهوية الوطنية بالإعدام….

اخيرًا، لسنا في تقييم، وانّما كانت بعض الومضات سقناها للقول بانّ الازمة نظامية، ساهمت فيها الدولة -كقوة مركّزة للمجتمع- بالقسط الوفير، والنخبة المثقفة بعدم اكتراثها بدورها الطلائعي في تعميق الوعي الجمعي بالقضايا المشتركة، والاعلام المهيمن بركضه وراء الربح السريع، والازمة الاقتصادية التي تترك جانبا القيم الانسانية لفائدة الصراع من أجل البقاء.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات