الربط بفرنسا: الآليات الذهنية لصناعة الضحايا (3) – المحتوى والمعنى

الربط اللامادي لإلحاق التونسيين بفرنسا، يعمل على اختراقهم في مستوى أفهامهم وتصوراتهم، وكل عملية ربط لامادي ناجحة تمثل عينة لمسار تأثير استهدف شخصا، وهذا المسار يتكون من :

أولا : منتج عملية التأثير وهم السلطة الرسمية وفواعل الإلحاق بفرنسا يساريوها وليبراليوها و إسلاميوها.

ثانيا : هدف عملية التأثير وهو عموم التونسيين.

ثالثا : أوعية وحوامل التأثير وهي أدوات تشكيل الأذهان من تعليم وإعلام وثقافة في مستواها الأولي، لأن التأثير بعد ذلك يصبح موضوع تنامي سريع أسّي ينتجه الناس الضحايا للتأثير في بعضهم (1).

رابعا : المحتوى أي المادة التي تستعمل لنقل المعاني حين التأثير.

محتوى عملية التأثير مستوى تتحرك فيه آليات ذهنية تديم حالة البلادة الذهنية لدى الضحايا / الناس المتلقين، فهنا إذن عاملان محددان لكل مسار التأثير وهما : المحتوى في ذاته وتعامل الضحية / المستهدف مع المحتوى.

في فهم المحتوى والمعنى

- حينما نأخذ للبحث مجالا عاقلا ينتج المعاني بالكتابة والقول (2)، فسنجد مستويين للنظر، أولا المحتوى وقيمته (3) نسبة للمعنى، أي المحتوى ومعانيه والعلاقة بينهما، وثانيا طريقة نشوء المعنى هل يتمّ مباشرة أو يكون بطرق غير مباشرة.

- هناك منتجات المعاني المقيّمة كميا (كلام، كتاب، فيديو,,,)، وهناك منتجات المعاني غير المقيّمة كميا (معلقة إشهارية، اللباس، قرار سياسي بتدريس البرامج الفرنسية للأطفال التونسيين,,,)، وفي كلتا الحالتين، المعنى يكون من خلال المحتوى مباشرة أو يكون بواسطة.

- المعنى هو التصور والانطباع المستفاد من الاطلاع على منتج معاني محدد كمي أو غير كمي، أي أنه المكون اللامادي الحاصل من التفاعل مع منتج معاني.

- هناك اعتبار متعلق بالمعنى الأولي للموجود هل هو أصيل أم مستورد / مستعار، حيث يقع في حالات معينة، إضافة معنى للمحتوى من خارج السياق أي عملية استيراد لمعنى خارجي كإيراد الآيات القرانية أو أقوال الكتاب والشعراء أو بالفلاسفة الغربيين التي يولع بها الكثير (4) وهذا يقع في المحتوى المكتوب، أو الاستشهاد بالمؤثرين بالنسبة للمحتوى المشاهد أو المسموع، أو في خطاب أو لقاء تلفزي ظهر فيه أحدهم يناقش شخصا مشهورا ممن يجلب حضوره قيمة من حيث معنى المحتوى.

إذن المعنى الأولي للموجود يحتوي وجوبا على معنى أصيل ومعنى مستورد محتمل

- منتجات المعاني بها عنصران ظاهران وهما الكمية والمعنى، وهي عموما حوامل المعاني المكتوبة والمسموعة والمشاهدة (كتب، فيديوهات، نقاش شفوي,,,)، في هذه الحالة المحتوى به عنصران كميته المباشرة ومعانيه، فبالنسبة للمحتوى المكتوب فالمعتاد أن ينظر لطول الكتاب أو طول المقال ولا ينظر إلا قليلا للمحتوى لأن ذلك يأتي متأخرا في الحاصل، وبالنسبة لمحتوى مسموع أو مشاهد فإنه ينظر لطول وقته مثلا.

لما كان منتج المحتوى (كتاب، فيديو,,,) به عنصران وهما الكمية والمعنى، ثم إن مكون الكمية هو العنصر الظاهر والملموس، مقابل العنصر اللامادي لقيمة منتج المعنى، فإن الناس تنزع للعنصر المادي لأنه الأقرب للاستيعاب الذهني، فتقرر ضمنيا أن الأهمية يؤشرها الجانب المادي أي أن قيمة المنتج المعنى هو عنصره المادي، بمعنى آخر فإن الناس تفترض من عندها بسبب الآليات الذهنية المغالطة والمعتمدة من دون مراجعة، أن الكتاب الأكبر أهم من الأصغر و أن الفيديو الأطول أهم من الفيديو الأقصر، و أن الزعيم المتكلم الخطيب أفضل من ذلك الذي لا يتكلم كثيرا، و أن الشخص الأكبر سنا عادة أجدر من الأصغر، وأن الكتاب الذي نشرته دار نشر معروفة أفضل من ذلك الذي نشرته دار نشر غير معروفة، وقس على ذلك غيره من منتجات المعاني من هذا النوع، فهنا انطباع الناس الذي يقرر تقييمات مبنية على فرضيات مسبقة يمثل نوعا من خلق المعنى (سلبي أو إيجابي) الذي ينضاف للمعنى الأولي للمحتوى .

بالتالي فمنتج المحتوى في ذاته يمكن أن يتصرف فيه ليخلق معنى مضاف للمعنى الأصلي للمحتوى، أي أن تقدير الكتاب الأضخم أو الصادر عن دار نشر معينة مثلا يمثل عملية خلق معنى مضاف للمعنى الموجود ابتداء بين دفتي الكتاب، إذن العلاقة بين المحتوى والمعنى تتأثر زيادة ونقصانا .

إذن فالمعنى الثابت للموجود حامل المعنى نسبة للزمن (أي الذي لم يتغير بفعل عملية زمنية) هو حاصل معنى أولي مع معاني مضافة يمكن أن تكون متعددة.

- هناك اعتبار آخر وهو أن تعدد مراحل تداول المعنى، يجعل نفس الموجود تضاف إليه معاني جديدة لأنه في كل مرحلة ينتج معنى مختلف.

وعليه فالمعنى النهائي هو المعنى الثابت مضافا إليه المعاني في مختلف المكونات بمختلف مراحل الاستعمال.

بغرض الفهم، خذ مثلا، فيديو تظهر به امرأه متعرية، فالمعنى الأولي سيكون يدور حول النبذ والذم (في مجال زمني ومكاني معين مسلم مثلا)، الآن لنفترض أن تلك المرأة ظهرت مع سياسي معروف، هنا سيتبدل الحكم على الفيديو بدرجة ما لأنه تم إضافة معنى إيجابي للمرأة استعارته من خلال قبولها من طرف شخص مشهور أي منتج معاني إيجابيه، فساهم ذلك في تخفيض الحكم الأولي ضدها، الآن لنفترض أن تلك المرأة ظهرت في برنامج تلفزي كضيفة شرف أو منشطة، الآن الحكم على الفيديو الأول سيتغير اكثر نحو الإيجابية وسيتضاءل المعنى السلبي، وبعد مدة، سينتهي الحال بالقبول بمحتوى الفيديو.

ما وقع أن مراحل تداول المعنى الأول أضافت معاني أخرى، فهنا تغير في المعنى النهائي الذي كان بعد مراحل زمنية ما لأنها عمليات تتغير حسب الزمن، أي أن المراحل التي يمر بها المحتوى تخلق معاني أخرى تبني حاصل المعنى النهائي للموجود.

- هناك مستوى آخر في إنتاج المعاني وهو أنه يمكن أن يحدث من دون مكون الكم، مثلا قرار تدريس البرامج الفرنسية للتونسيين حدث يخلق تصورات أي معاني تدور حول أهمية اللغة الفرنسية و أن فرنسا قدوة، في هذه الحالة نلاحظ خاصتين في عملية إنتاج المعاني :

أولا : المعنى تم إنتاجه من دون حامل معاني محسوس أي غياب عنصر الكم، أي ليس الأمر متعلقا بكتاب ينتج المعاني أو فيديو أو أحدهم يتحدث بكلام .

ثانيا :إنتاج المعنى تم بطريقة غير مباشرة، أي أن معنى حب فرنسا و اتخاذها قدوة لم يكن نتيجة قول مباشر من نوع : أيها التلاميذ حبوا فرنسا و اتخذوها قدوة، و إنما حدث من خلال واسطة، فهنا إنتاج للمعاني بطريقة غير مباشرة.

يمكن أن يقال نفس الشيء عن المعلقات الإشهارية، فالمعلقة التي تظهر امرأة متعرية تستعمل علامة هاتف معين، تنقل العديد من المعاني بطريقة غير مباشرة غير تلك المتعلقة بالهاتف الذي من أجله وجدت المعلقة الإشهارية أساسا، فهنا يقع تمرير فكرة القبول بالتعري وتنقل كذلك فكرة أن المتعريات غير منبوذات اجتماعيا، بل و إنهن قدوات، بطريقة غير مباشرة، فهو معنى غير مباشر ومن دون قياس كمي.

- هناك علاقة بين طريقة نقل المعنى إن كان مباشرا أو لا، وبين منتج المحتوى هل هو كمي أو لا، فيمكن أن نقرر أن كل منتج كمي للمحتوى ينقل المعنى مباشرة على الأقل مرة واحدة في حده الأدنى وهو المعنى الأصيل (الكتاب، الفيديو,,,) وقد ينقل كذلك معاني بالواسطة.

أما المحتوى غير الكمي كالمعلقات والشخصيات وتدريس البرامج الأجنبية والملابس في المساحات العامة، فهي تنقل المعاني بطريقة غير مباشرة.

الصيغة المنهجية للعلاقة بين المعنى والمحتوى

1 - في حالة منتجات المعاني المقيّمة كميّا :

المعنى=المعنى الأولي (أصيل+مستعار)+المعنى المضاف+المعاني المتغيرة حسب الزمن .

مثلا كتاب يتحدث عن تحضير الخبز:

المعنى الأولي : تحضير الخبز (م_أ)

المعنى المضاف : الكتاب طبع من طرف مطبعة مشهورة فأضاف ذلك قيمة للكتاب (م_م)

المعاني المتغيرة حسب الزمن : (م1)

تم في حصة تلفزية الحديث عن الكتاب وذمه الكثير من الحضور، فهنا معنى سلبي، ينقص من حاصل المعنى السابق : ويكون الحاصل : م_أ + م_م - م1

في برنامج آخر، تم ذكر الكتاب بطريقة جدية، فهنا يكون الحاصل :م_أ + م_م – م1 + م2

قياس الكفاءة

في المعاني ذات الكم المضبوط، يمكن تقيم كفاءة المعاني نسبة لحجمها،مثلا ماهو الفرق بين جملتين تقدمان نفس المعنى ولكنهما ليستا بنفس الطول، هنا علينا النظر للمعنى المنشود في حده الأدنى الكمي، أي نقول أن هذا المعنى مثلا يمكن إيجاده بهذا الكم من المحتوى، ثم كل ما زاد عن ذلك فهو غير لازم للمعنى.

هنا علينا أن نفرق بين المحتوى الأصيل الذي قاله / أنتجه صاحب الكلام / المحتوى، والمحتوى المستعار، فحينما يتحدث أحدهم بالقرآن أو بقصيدة، فعلينا استثناء ذلك وقت احتساب الكفاءة لكن من خلال مقياس آخر.

1- إذن ما أسميه عامل كفاءة المحتوى في منتجات المعاني المقيّمة كميا (بالنسبة المئوية) هو:

(كمية المحتوى الموجود/الكمية في الحد الأدنى اللازم) * 100

مثلا حينما أريد معنى اشتريت كتابا، وهناك الجمل التالية:

اشتريت كتابا، اشتريت كتابا رائعا، اليوم ذهبت للمكتبة واقتنيت كتابا بخمسة دنانير. أبحث عن معايير كفاءة تلك الجمل، فيكون الاحتساب مرتكزا على كم الجملة الدنيا وهي اشتريت كتابا بطول 12 حرفا:

- اشتريت كتابا (12 حرفا): (12/12)*100= 100%

- اشتريت كتابا رائعا (18 حرفا): (12/18)*100= 66 %

- اليوم ذهبت للمكتبة واقتنيت كتابا بخمسة دنانير (45 حرفا) : (12/45)*100=26 %

فالجملة الأولى لها كفاءة معنى ب66 بالمائة مقابل كفاءة ب 26 بالمائة للجملة الأخيرة.

لكننا لاحظنا سابقا أن المعنى فيه الأصيل وفيه المستورد، أي الشعر والقرآن وعموم الاستشهادات، وعلينا قياس ما أسميه أصالة المحتوى، أي المحتوى الخاص بمنتج المحتوى من دون المستورد.

2- إذن ما أسميه عامل أصالة المحتوى في منتجات المعاني المقيّمة كميا (بالنسبة المئوية) هو:

( كمية المحتوى الموجود الكلي / كمية المحتوى الموجود الأصيل) * 100

مثلا حينما أريد معنى أن الشجاعة خصلة جيدة، وهناك الجمل التالية :

- الشجاعة صفة جيدة.

- الشجاعة صفة جيدة وقد قال أبو الطيب :شجاع كان الحرب عاشقة له إذا زارها فدته بالخيل والرجل.

- الشجاعة مدحها الإسلام وقد قال الله في القران : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ وقال أيضا : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.

قياس عامل أصالة المحتوى سيرتكز على الجملة : الشجاعة صفة جيدة ذات 16 حرفا، فيكون احتساب عامل الأصالة كالتالي :

- الجملة الأصلية بكفاءة 100 %

- الجملة التي بشعر أبي الطيب (88 حرفا): (16/88)*100=18 %

-الجملة بالقرآن (301 حرف) : (16/301)*100=5 %


…

2- في حالة منتجات المعاني غير المقيّمة كميّا :

مثلا في حالة معلقة إشهارية، أو انتشار لباس معين في مجتمع ما، فإنه لا يمكننا أن نقيس اثر المعاني التي انتشرت بين الناس بفعل تلك المعلقة أو اللباس، لأنها أولا معاني لا تقاس كميا، ثانيا المعاني التي تنقل من خلال منتجات المعاني غير الكمية متعددة، فمعلقة تتحدث عن سيارة مثلا، يمكن أن تنشر معاني عديدة منها الريادة الصناعية للدولة صانعة تلك السيارة وجدارة الشركة التي توزعها وسمعة صاحب تلك الشركة، فضلا عن المعنى الأولي المقصود الذي من أجله وجدت المعلقة الإشهارية، وبالتالي فلا يمكننا حصر معنى واحد لقياسه، على الأقل بالطريقة التي قدمناها في المقيم كميا.


الهوامش:

(1) لفهم مسألة انتشار التأثيرات اللامادية بين الناس ينظر لمقال : في فهم الربط المادي واللامادي.

(2) إنتاج المعنى أقصد به الكتاب ولكن كذلك كل من ينشئ محتوى ذهني جديد وليس بالضرورة فكرة أو مفهوم لأن ذلك يفترض حدا أدني من المنهجية لا يتوفر بالضرورة لدى المؤثرين اليوم في كاتبي التدوينات ممن يخط الخواطر العشوائية ويلقى رواجا ويحدث تأثيرا.

(3) حينما نستعمل قيمة المحتوى فإننا نقصد قيمة معانيه (مثلا جملة : اشتريت كتابا ماذا تعني) وليس قيمته المادية أو غيرها، لان القيمة وصف مضاف، لا يأخذ مفهومه إلا نسبة لمضاف إليه، و إن تعود الناس استعمال قيمة كلفظ مستقل، ويقصد به عادة مطلق القيمة أي الأهمية.

(4) يحرر بعضهم كتبا و مقالات في مواضيع من تلك التي تناولها كتاب أعلام، فتجد المحتوى يستشهد كل حين بما قال الكاتب سين، وتتقدم فإذا به يقذفك بما قال الفيلسوف الفرنسي صاد، ثم لا تكاد تحصّل بعضا من القراءة حتى تجد صفحة حبّر غالبها بطرفة حدثت لذلك الفيلسوف الألماني، وينتهي بك المقال أو الكتاب بانطباع أن كاتبه ما أفلح في التأليف وإنما أفلح في النقل عن الغير، وأن كسبه الذي أثمر أنه أغرقنا و أغرق ما كتب في عمليات نقل ثقيلة، و أنه ما كان مهموما بشيء قدر همّه القول لنا أنه عارف بأولئك الكبار، ونسي الكاتب المهموم بهذا الذي يفهمه رفعة وما هو بالرفعة، أننا لا نريد رأي هؤلاء و إنما نريد رأيه هو في الموضوع الذي طرقه، ولو أردنا أولئك ما أتيناه.

و أكثر الذين يغرقون في النقل المسرف في القبح أولئك الذين يقولون أنهم يشتغلون بالفلسفة وما قاربها من الإنسانيات من تلك التي نشأت حديثا بالغرب.

نريد من هؤلاء الكتاب أن يقرؤوا ثم يهضموا ما قرؤوا وينتجوا لنا رأيا يتقرب إلينا فنتقرب إليه ونجد أنفسنا فيه لا يحاربنا ولا يعمل على جعلنا تبعا، لا نريد أن تتحول دراسة الإنسانيات لفرع جديد من أدوات الإلحاق الذهني بالآخر المغالب لنا.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات