واشنطن: لا شيء للسلطة… والإغواء لـ«حماس»

ها هي الولايات المتحدة تتحرك من جديد…

ما كانت إدارة بايدن تعتزم أصلا أن تحرك شيئا لولا غزة التي أجبرتها على أن تفعل شيئا ما وإن كان واضحا أنها إنما تفعله «دون نِفْس» ودون إرادة حقيقية على تحقيق إنجاز ذي قيمة يختلف عما دأبت عليه الإدارات السابقة على الدوام.

لم يكن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن يعتزم زيارة منطقتنا أصلا، ولا هي كانت ضمن اهتماماته، لا هو ولا رئيسه، لولا أن نضالات الفلسطينيين في القدس المحتلة وصمود أهالي الشيخ جراح ثم صواريخ «حماس» وباقي فصائل المقاومة في غزة التي فرضت على واشنطن ما لم تكن ترغب فيه.

صحيح أن إدارة بايدن أعادت العمل بما كان الإدارة السابقة قد ألغته، سواء المساعدات المالية والإنسانية إلى السلطة الفلسطينية أو المساهمة في ميزانية «الأونروا» لكنها لم تكن تخطط إلى ما هو أبعد من ذلك فلديها أولويات أخرى أكثر إلحاحا، غير أن تفجر الأوضاع وما أبداه الفلسطينيون من صلابة في تحركاتهم الشعبية وفي صواريخهم التي أمطروا بها المدن الإسرائيلية، أجبرها على العودة إلى الحديث في السياسة، وليس أكثر من ذلك.

شرعت إدارة بايدن في الحديث من جديد عن «حل الدولتين» كما بدأت على استحياء في الاشارة إلى الفلسطينيين كبشر يحتاجون الأمن والكرامة رغم عدم تخلي واشنطن عن معزوفة «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها» التي باتت هذه المرة مبتذلة ومستفزة كما لم تكن يوما. كما أن المظاهرات التي خرجت في عواصم عربية وعالمية كبرى، مع التململ داخل الحزب الديمقراطي نفسه ساهمت بدورها في دفع الادارة الأمريكية إلى التحرك ولو مكرهة.

وطالما أن هذا التحرك جاء مرتجلا فهو لا يحمل أي أفق سياسي، بل هو مسعى ترقيعي ظرفي أشبه بـ«الاسعافات الأولية» لمريض خطير دون حمله إلى المستشفى أو الاقدام على إجراء عملية جراحية لا مفر منها. يكفي هنا إلقاء نظرة عما قاله الرئيس الأمريكي بخصوص زيارة وزير خارجيته إذ أنه اكتفى بالاشارة إلى أن لقاءاته بمسؤولين إسرائيليين إنما هي «للتأكيد على الالتزام بأمن إسرائيل» أما اتصالاته بالقيادة الفلسطينية فهي لن تخرج وفق تعبيره عن «جهود لإعادة بناء العلاقات ودعم الشعب والقادة الفلسطينيين بعد سنوات من الإهمال».

لا نجاة للفلسطينيين إلا بترتيب بيتهم الداخلي والحفاظ على وحدة تمثيلهم ومؤسساتهم، ولا عيب إطلاقا في أن يلعب البعض منهم دور «الطيّب» والآخر دور «الشرير».

بلينكن نفسه وفي مؤتمره الصحافي مع نتنياهو أمس الثلاثاء قال إن هناك أربعة أسباب وراء زيارته للمنطقة رتبها كالتالي : الالتزام بأمن إسرائيل، ضمان الاستقرار في الضفة وغزة، إعادة الاعمار في غزة وأخيرا إعادة بناء العلاقات مع السلطة. لم يذكر الرجل شيئا عن ضرورة الحل كما أنه لم ينطق بلفظ الاحتلال، ولا لمرة واحدة، مع أنه وجد من المناسب الاشارة إلى المظاهرات في أمريكا ضد إسرائيل على أنها من مظاهر «معاداة السامية» وهو موقف طرب له نتنياهو فأشاد به على الفور.

لا جديد إذن في التحركات الأمريكية على الاطلاق، ومن أفضال مأساة غزة أنها سرّعت في كشف ذلك وبالتالي فقد جنبت الفلسطينيين سرابا جديدا يحسبه الظمآن ماءً، إذ من الواضح أن التحرك الأمريكي الجديد لا يخلو من إعادة إنتاج نفس «الخزعبلات» السابقة وذلك على صعيدين:

الأول محاولة استرضاء السلطة الفلسطينية بمبادرات شكلية لا تسمن ولا تغني من جوع. تريد واشنطن أن تمنّ على القيادة الفلسطينية، التي أحرجتها حرب غزة وأظهرتها بمظهر المفلس، بإعادة الاتصالات الأمريكية بها وكأنها مكسب هام مع أنها مجرد علاقات عامة لا تقدم ولا تؤخر، بل قد تكون أسوأ إن كان الهدف منها ترسيخ الانقسام الفلسطينيي ومراكمة الغضب على الرئيس محمود عباس الذي سيبدو من جديد بالعاجز رغم أنه «معتدل» مقابل ما قدمته حركة حماس «المتطرفة» التي هلل لها الفلسطينيون جميعا رغم فداحة الخسائر. هذه رسالة بالغة إذا لم تلتقطها «فتح» والسلطة فقد يفوتهما القطار بلا رجعة.

الثاني، محاولة التلويح، عبر أطراف أوروبية بالدرجة الأولى وربما كبداية لجس النبض، بإمكانية القبول بـ«حماس» طرفا قد لا يكون هناك من مفر للتحاور معه بشكل أو بآخر، على أساس أنه من الضروري أن تكون الحركة «جزءا من الحل». إنها باختصار عملية إغواء ومراودة لهذه الحركة حتى يسيل لعابها وتلتقط الطعم مزهوة فتلقى نفس مصير «فتح» التي أضاعت مشيتها الأولى ولم تأت لها مشيتها الثانية بشيء. يريدون الآن إدخال هذه الحركة التي ترفض التنازل عن سلاحها إلى نفس المتاهة التي دخلتها «فتح» منذ عقود والتي وصلت إلى محطتها الأخيرة. من الغباء أن تكررها «حماس».

لا نجاة للفلسطينيين إلا بترتيب بيتهم الداخلي والحفاظ على وحدة تمثيلهم ومؤسساتهم، ولا عيب إطلاقا في أن يلعب البعض منهم دور «الطيّب» والآخر دور «الشرير» حتى تأتي اللحظة المناسبة حقا للتفاوض الذي لن يكون مجديا إلا إذا بقي الإصبع على الزناد والصواريخ على منصات إطلاقها.
هكذا علمتنا غزة وهكذا علمتنا كل حركات التحرر في العالم ولن تكون فلسطين استثناء.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات