الشاغل الفردي أمام الشاغل الوطني في تونس

Photo

بودي أن أصل إلى تفسير نهائي خاتم ولكن لدي يقين أن مثل هذا الطموح وهم جميل، فضلاً عن أن المدخل إلى المسألة ليس منهجيًا أو على الأقل ليس مطابقًا لما اتفق عليه من مداخل في علم النفس الاجتماعي، لقد أزرت بنا المداخل الكليانية ونحن نغفل من جهل تفاصيل صغيرة يمكن لو جمعت أن تنير سبل التحليل، فالفرد مجتمع بذاته لا يحتاج دومًا إغفال اختلافه لنجد المجتمع الكلي لنعود منه إلى فهم الفرد، سأتحدث عن التوانسة عن أهلي.

التونسي الذي أعايشه يفزعني بقدرته الكبيرة على السكن في تناقضات جوهرية يعيش بها ويروجها وفي أحايين كثيرة يتحول إلى مقاتل شرس من أجلها، ثم يفاجئك بالتخلي عنها بمقابل بسيط كأن لم تكن معركته إلا مسرحًا.

التونسي كائن من زئبق لا يمكن وضعه في إناء فكري أو ثقافي، كائن يفسد كل قواعد التحليل ويجعل كل قول في علم النفس نوعًا من الترهات، هل التونسي مواطن في دولة أم تاجر في سوق أم بواب ماخور؟ التونسي يحمل السلاح في داعش لبناء أمة الإسلام ويبيع أخته لسائح فرنسي بمقابل، فهل مر التونسي من مدرسة واحده كما رغب الزعيم؟ وماذا تعلم التونسي في المدرسة التونسية الحديثة الحداثية؟

الشاغل الفردي أمام الشاغل الوطني

مكمن التناقض الذي نرى هو معركة الفردي مع الوطني أو الجماعي، كم يعطي التونسي للجماعة التي يعايشها وينتمي إليها وكم يأخذ منها، لا نبحث هنا عن نبي بل مواطن يقدر أنه ليس وحده بل شريك في الانتماء والمصير.

مظاهر التعايش في الطريق والعمل والسياسة لا تبدو كاشفة لقدرة على التنازل من أجل مصلحة عامة تضمن المصلحة الفردية، بل عن سعي حثيث ومتكالب على تحقيق الحاجة الخاصة بقطع عما يصيب الآخرين من ضرر.

المظهر البسيط المكشوف لذلك هو التسابق المخالف لقانون الطرقات حيث لا يحترم السائق أولوية القانون والمظهر الأشد تعقيدًا هو محاولة الطبقة السياسية إلا قليلاً الوصول إلى حكم البلد بالإشاعات الكاذبة وفي مناسبات كثيرة بالخيانة الموصوفة والاستعداد لبيع البلد برمته، وما بن علي إلا جزء ظاهر من جبل الخيانات الكريه.

وفي مواجهة هذه الأنانية المفرطة أو رفض التعايش الجماعي يظهر التونسي ثقافة قانونية متفوقة فهو مجادل من أعرف الناس بالقانون من الطرقات إلى الدستور، فالتونسي الذي أعرف (الذي لا أعرف في الحقيقة) ماكينة رهيبة للتبرير، تبرير سلوكه الخاص دون تقيد بقواعد العيش الجماعي.

سقوط الخوف كشف الأنانية

الظاهر في الصورة أن هناك توجهًا عامًا غالب على السلوك الجماعي لم يعد يخشى القانون بما كشف أنه لم يكن يؤمن به، فغياب الردع كشف أنه كان ينافق التراتيب خوفًا منها لا إيمانًا، فلما انحلت قبضة الأمن والرقابة على الأفراد تجلت رغباتهم الصارخة في الاستحواذ والتملك والغزو (استعمل المجار) لأقارب ما فعلت النقابات بالناس وبالبلد بعد خوف من النظام لمجرد رفع الصوت بطلب حيوي.

وعمل النقابات علامة على روح عامة متشفية في كل القطاعات المهنية، ترفع الحديث عاليًا بالوطنية والإيثار وبناء المستقبل ثم تتصرف كأن المال العام غنيمة مطروحة على الطريق.

هنا نجدهم مقيمين في التناقض لا يبرحونه، بل التناقض صار لهم وطنًا يكشف خطابين متعايشين في وعي فرد واحد أحدهما يغطي الآخر، خطاب واجهة وسلوك مغاير، وجهان لفرد يبحث عن وجاهة فيتخذ واجهة لنكتشف أن الأول كاذب عند المرور إلى الفعل، فرد يبحث عن الهروب من مواجهة حقيقته العارية، التونسي كما أراه وكما أعاينه ليس مواطنًا بعد، التونسي جامع فيء بعد غزو.

هل هذا تعميم علمي؟

يجب أن أقدم معطيات كمية على سلوك قابل للقياس الكمي، لكنني عوض ذلك أقف في صباحات كثيرة على مفترق طرق وأعاين أن نصف وقت السائق يهدر نتيجة سلوك المخالفين وقلة قليلة من لا تخالف قواعد السير فهي الخاسر الوحيد، حتى إنهم ينزلون ويعتدون على الشرطة التي تحاول أن تنظم السير، وللنساء التونسيات نصيب من الاعتداء على رجل الأمن الذي يجد بعض منتسبيه نفسه في ورطة الرد بعنف على سيدة فيصمت.

إن ساعة ملاحظة علمية في مفترق طرق تعطي قولي هذا كل مصداقيته فإذا توسعت ووضعت مطالب النقابات على مقياس المصلحة العامة لاكتشفنا أن انهيار الثورة ناتج قبل ردة النظام القديم عليها عن مطالب الثوريين في القطاع العام الذين أغلقوا المدارس والمستشفيات من أجل الزيادة في الرواتب بدعوى أن الحكومة عميلة وخائنة (خطاب تخوين الحكومة يختفي ليلة الموافقة على الزيادات في الأجور)، في الأثناء النقابات تتبنى كل قضايا العالم العادلة بما فيها الوقوف صفًا واحدًا مع فنزويلا ضد الإمبريالية الترامبية، من نصدق؟

نقد النقابات ليس دفاعًا عن النخب السياسية التي اتخذت لها حيلاً للوصول إلى السلطة وحكمت بعد الثورة، لقد عينا السياحة النيابية الكاشفة لشراء ذمم مقابل مواقع ومنافع، ورأينا نوابًا يتنكرون لأحزابهم التي أوصلتهم إلى البرلمان مقابل الإمساك بكرسي الوزارة، فأسوأ نموذج للتونسي ظهر في حكومات ما بعد الثورة إلا استثناء يؤكد قاعدة.

لقد صار مشهدًا مألوفًا في أحزاب تونس أن يفضح وزير زميله بكشف زيف شهادته العلمية على الملأ فيختصمان ويتلاكمان أمام الشاشات، في تونس حصل قوم على مناصب متقدمة في الدولة بشهادات علمية مزيفة، فأين يمكن لمثلي أن يتحدث عن سياسي مواطن ماذا يبقى لجامع الفيء والأسلاب.

نرمي المفتاح في النهر

كأن ليس هناك أمل في التونسي أن يصير مواطنًا يحترم قواعد التعايش؟ إحدى أهم تناقضات المثقفين (وهي جزء من تناقضات هذه الجماعة البشرية) أن يختلقوا تبريرات لتغطية مسائل فاضحة كضعف وازع المواطنة أو غيابه لدى شعوبهم فهم (المثقفون والكبار منهم خاصة ) منحوا أنفسهم مهمة رفع العزيمة الجماعية ولو كذبًا هي مهمة تطورت من عصر المثقف الموظف عند السلطة الفاشلة حيث يسرق السياسي خيرات البلد ويقوم المثقف بالصراخ البلد بخير لا تبتئسوا.

هذه الورقة ليست من صراخ أولئك المكلفين بمهمة بل هي سعي لمواجهة حقيقة فاجعة بلا مساحيق، فأسلوب التربية المتبع في مدرسة الزعيم وتحت سياسته وسياسات ورثته لم ترب مواطنًا بل ربت نهابًا ولصًا يسرق إن أفلح في واضحة النهار بواسطة نقابة مجرمة وإن جبن مد يده خلسة.

هذا الساكن في التناقض يبرر لنفسه وعلى لسانه جملة دالة حتى الحاكم يسرق، بل الحكام أول السّراق ثم تبدأ سلسلة التبريرات التي تقطع الصلة بين الأفراد فلا يبقون معًا إلا من خوفهم المتبادل، إنهم يعيشون بمعادلات خوف من السلطة فإذا اختفت خافوا من بعضهم فإذا انعدم الخوف ظهر اللص الكامن في كل فرد منهم ومد يده إلى ما متع به غيره.

كان هوبز الفيلسوف يتحدث عن حرب الكل ضد الكل مخالفًا سماحة روسو في الإنسان الخير جبلة، لو جاء روسو إلى تونس في دولة بورقيبة وما تبعها لعاد منها على مذهب هوبز.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات