المقامة الافريقية (الجزء الثاني)

Photo

حدث صديقنا الغر العبيط ، صاحب اللسان السليط قال :

واعلم أدام الله عزك ، وجعلنا من الدائمين على مائدة إوزّك...انا خرجنا من افريقية لا نلوي على شي.. نلعن الساسة والسياسة، منددين بالخطابة وبالوعود الكذابة...وبقينا في الخلاء ردحا ، نشبع القوم شتما وقدحا...نطعن في سيرة الاولين و نلوك اعراض التابعين ...حتى جمعنا من الحكمة ما ليس تدركه العقول ، وإن قاربته يدركها الذهول..والحكمة عند العقلاء نعمة، وعند الأشقياء نقمة وظلمة...وأقمنا في عزلتنا تلك كالناسكين ، نمجّد الإفك ونعرض عن اليقين...ثم ما لبثنا أن هزنا الشوق الى قلة الذوق، فتدحرجنا من اسفل إلى فوق...فشربنا خمرنا ثم حزمنا أمرنا ، وقلنا لابد أن ننقذ الجماعة مخافة أن لا تشملهم الشفاعة..فضربنا الاخماس في الاسداس ، وتوكلنا كما يفعل الناس…

فلما أدركنا من الديار التخوم ، لفّت جمعنا عاصفة من الغبار ، كادت تحجب عنا ضوء النهار...فطار لبّنا واحتار الدليل ، وتبلّلت منا السراويل...فاستجمعنا شجاعتنا في مواجهة الغمامة ، متخذين الوضع الحربي للنعامة..ودفنّا رؤوسنا إلى الأكتاف ، وتصلّبت منا الأرداف...فوالله ما أيقظنا من هذا السبات إلا ضرب النعال على المؤخرات...فرفعنا رؤوسنا في عتاب، نستجلي الطارق على الباب...فإذا نحن في حضرة شيخ جليل ، يمسك بلجام جواد عربي أصيل...نظر الينا الحصان شذرا ونهرنا سيده نهرا..ثم بادرنا بالسؤال ، قال مالي أراكم بأسوء حال ، تغرسون رؤوسكم في التراب مثل رويجل أعرفه يقال له بوغلاب ؟

قلنا جعلنا الله فداك ولوّث عرضنا وطيّب ثراك وبارك في قيامك وجلوسك وسدد خطاك...إنا كنا معتكفين ، معتزلي الناس وعنهم مبتعدين ، نرجو السلامة من كل أذية بعد ما رأينا من اهل إفريقية..ولما نفد منا الزاد قررنا العودة الى البلاد...لكن من انت ايها الشيخ الوقور ، انا لنراك صاحب ذنب مغفور...فمن أي ديار العرب أتيت ، وكم عمرا فيها أفنيت ؟

قال ويحكم يا أشباه الكلاب ، أنزل الله بكم أشد العذاب ، ألا تعرفون مسيلمة الكذاب ؟ أنا الذي كنت حديث الناس وتلقيت من اللعنات أكثر من الوسواس الخناس...فأسقط في أيدينا وأقبلنا عليه، نلعق من خوفنا تراب قدميه...فتهلل وجهه استبشارا وقال أمّا وهذه حالكم فإني قد أخذت قرارا...لأنتم والله كأمثال الدر المكنون وإنه ليحزنني أن تفارقون...أما ان كان لا مفر لكم من الذهاب فأوصيكم أن تأخذوا بالأسباب..واسمعوها مني كلمة فصيحة تكون لكم بمثابة النصيحة...إذا دخلتم افريقية فحذار ثم حذار ، من رويبضة يقال له لعماري...فإنه والله قد غلبني في اختلاق الأكاذيب ، وقهرني حتى أغرقت مضجعي بالنحيب...إذا القوم ضحكوا قهقه للصباح وان هم بكوا سبقهم بالنواح...كحيزبون الحرباء تميح مع كل الأرياح....

قلنا والله ما أنصفت الرجل ، مالك لطخت سمعته بالوحل ؟ إنا لم نسمع عنه ما يعيب ، بل هو صاحب عقل لبيب ، شعاره الصدق في القول واجتناب الأكاذيب ، مبالغ في احترامه للزملاء ، مقلّا في تزلفه للعظماء..لم تكتب يمينه يوما وشاية ولم يتخذ من الإفتراء على المناضلين هواية...عصيّ على الكذب بعيد عن النفاق ، جسور لا يخشى حافري الأنفاق...إذا حدّث لم يقل غير الصواب ، فكيف تنعته بالكذّاب ؟ أنسيت يوم اعتذر من الناس ، والنبل في مخاطه يفجر الإحساس...فقام لنا مسيلمة شاهرا سيفه باليمين ، فركضنا عنه هاربين.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات