عن ضياع الدولة ونحل أبي وسركونة

Photo

قد يكون أني أفكر بطريقة منهجية، لكنها هرطقة سياسية عند الكلاب،

حسنا، أيها الصديق، لقد تذكرتك حين وقفت على مرتفعات الرياح الباردة والعزلة الأبدية في سركونة والبيوت المهجورة والثنايا السرية التي افتكتها الغابة، وفكرت في ما يمكن أن أفقده، إذا ما "ضاعت الدولة" وفق النبوءة السوداوية، إنما كم هي واقعية، لصديقي اللدود نور الدين العلوي،

رغم أني كنت مشغولا بقصص الغابة وذكريات أبي رحمه الله في أثر أعشاش النحل البري وما لا تقوله الكلاب البدوية الثلاثة التي رافقتني عن خيبتها لأننا لم نعثر على حلّوف واحد نلهو بمصارعته بين الأودية، فقد فكرت في هذا الأمر السخيف: أن لا تكون لنا دولة ونظام عام وبطاقة تعريف ومعرف وحيد وأشياء أخرى أكثر سخافة لا مبرر لها إلا حاجة الدولة نفسها لإدارة نفسها وتبرير نفقاتها الملكية،

وعلى ذكر أبي، رحمه الله، والنحل البري، فقد عثرت هذه المرة على عش نحل بري مستحيل، في صفحة "زرزيحة" لا يمكن الوصول إليها إلا بالتدلي من علو عشرين مترا بالحبال المصنوعة لتوها من الحلفاء، قطعنا منه العسل، أنا وأبي منذ أكثر من أربعين عاما، وقتها ظل قلبي يردك خوفا أكثر من ساعتين على أبي وهو يتدلى في فراغ السفح الشرقي لجبل حديدة المهيب وأنا أرفع شهد العسل من يدي أبي المعلق في الهواء،

كان صياد نحل فريد، بإمكانه أن يقرأ ما يقوله الماء في الينابيع للنحل وطين الأودية للحيوانات البرية، أذكر أن أبي هو الوحيد الذي اقترب من عش النحل المستحيل، وأننا "قطعنا" منه أكثر من لترين من العسل البري وهو شيء أجمل من أن يباع. هذه المرة اكتفيت بالاقتراب من الذكريات، قراءة شيء عفوي من لغة النحل والغابة، رأيت عش النحل من بعيد متذكرا أبي، خصصت له فصلا بعنوان "الأب الغائم" في رواية "أحباب الله"، إنما لم أوفه حقه.

فكرت في فداحة أن لا تكون لنا دولة وطنية تأخذ منا الضرائب من أجل المدارس والمستشفيات والأمن ثم تتحول بلعبة "حمراء كحلاء" إلى أموال في سويسرا وعقارات سياحية في إسبانيا أو فرنسا وقد يعود إلينا بعضها على هيئة حاويات فضلات أوروبية لتسميم الذكريات الوطنية للدفن مع أبطال التحرير ورواد حروبنا ضد بعضنا، الآن أعتقد أن سركونة هي ضد كل ذلك.

حسنا، في مثل تلك المرتفعات القاسية، تبدو الفكرة كلها سخيفة حتى للكلاب المدربة على استحضار أكثر الروائح الأليفة والذكريات العميقة بعدا، ويمكنني أن أدرك أن لديها إحساس إني قد أكون أفكر بطريقة مدرسية منهجية، إنما في المكان الخطأ تماما، لأن سركونة لا تحتمل مثل هذه الهرطقة السياسية، في أكثر حالات ضياع فكرة الدولة جنونا، أنا أستند إلى جيش احتياط، ورواق آمن من الشوارنية من أنقار المحاميد جنوبا حتى أولاد مناع والعبّدة شمالا على ضفاف وادي ملاق العظيم، عند أبواب جندوبة الغنية، إنما كل هذا لا يغني عن سؤال صديقي اللدود: لمن نترك بناتنا وأبناءنا؟

وقفت طويلا، في صمت قُدّاس مسيحي أمام بيت طفولتي وحوش جدي المهجور، وقفت في طريق جدي الجزائري على فرسه الحمراء، تماما حيث كنت في الرابعة من العمر: في 1969 عند مدخل الحوش الذي كان يبدو لي مثل بوابة نصر رومانية، يصرخ فيّ بلهجته الشلحة التاريخية: "سيلوا سيسلبان"، عندما كانت سركونة رمزا للمنعة والاستقلال، قبل أن يصبح للدولة معنى، لم نكن نعرف لها معنى وقتها وكنا نرجو أن تتركنا في حالنا.

أشعلت نارا ضخمة، استعادة لألفة النار منذ إنسان الكهوف إلى "إنسان سركونة النقية2021"، المريض بقنوات تلفزة الزبالة والإشهار الأحمق الغبي والسياسيين الذين يتوهمون أنهم أكثر ذكاء من بقية خلق الله، براد تاي على حافة النار على الطريقة القديمة في انتظار غروب الشمس على القمم الغامضة السوداء للجبال الغربية، حيث تعود الروح إلى مشاعر الطفولة القوية: أتخيل عودة قطيعي الأغنام والبقر، تفقد الفحول وفرس جدي الحمراء ذات الغرة البيضاء تدفع رأسها فوق حاجز الحوش بحثا عن مكافأتها اليومية من العلف، تلك التي كنت أركبها بلا سرج ولا مقودة، أسابق بها الريح وأطوي عليها الأرض طيّا متمسكا بسبيبها والتحامي بصدرها حيث قلبها الجبار الذي أحس نظام دقاته من ساقيّ حتى قلبي.

حول النار تعود الأساطير والقصص الحميمة، ويبدو نسق العالم أكثر هدوءا وسلاما، إنما كم أحتاج لاختراع مبررات وجيهة للعودة إلى الحضارة، "لا يمكن المبيت هنا، هنا فقط للعلاج، لكن لا يمكن البقاء هنا، حتى للإجابة على الأسئلة الوجيهة لصديقي اللدود نور الدين العلوي.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات