طلب القضاة عدّة امتيازات و لغاية تحقيق طلباتهم ضغطوا على الحكومة بإضراب مفتوح منذ 16 نوفمبر 2020 و أضرب أيضا أعوان العدلية و هدّدت نقابتهم بأن لا عفو رئاسي هذه السنة اذا لم تستجب الحكومة لطلباتهم . و بسبب إضراب القضاة واعون العدلية توقّف مرفق القضاء وتعطّلت مصالح المواطنين و اعتبرت عمادة المحامين ان هذا الاضراب يضرّ بمصالح الدولة كما اعتبرته غير شرعي و طلبت من الحكومة تفعيل آلية التسخير و الخصم من أجور المضربين عملا بمبدأ العمل المنجز المنصوص عليه بمجلّة المحاسبة العمومية.
أمام هذا الوضع المتأزّم جدّا ارتأت الحكومة أنّ الحلّ يتمثّل في التّفاوض مع ممثّلي القضاة و في تسخير اعوان العدلية للعودة لمباشرة عملهم إلاّ أنّهم رفضوا و احتجّوا.
ابرمت الحكومة يوم الجمعة 18 ديسمبر 2020 اتّفاقا مع جمعية القضاة التي دعت منظوريها الى استئناف العمل يوم الاثنين 21 ديسمبر 2020.
إثر الإعلان عن هذا الاتفاق سارعت نقابة القضاة بالإعلان عن رفضه و اعتبرته غير جدّي و ساندها اتحاد القضاة الإداريين واتحاد قضاة محكمة المحاسبات و ابرم جميعهم يوم الخميس 24 ديسمبر 2020 مع الحكومة ممثّلة في رئيس ديوان رئيس الحكومة اتفاقا يتمّ بموجبه تعليق الإضراب و العودة إلى العمل يوم الجمعة 25 ديسمبر 2020.
لكن بالاطلاع على صفحتها يتّضح أن رئاسة الحكومة اتّبعت أسلوبين مختلفين في الإعلان عن الاتّفاقين فقد عرّفت ببنود الاتفاق المبرم مع جمعية القضاة ولم تعرّف ببنود الاتفاق المبرم مع نقابة القضاة واتحاد القضاة الرادارين و اتحاد قضاة محكمة المحاسبات.
1) التعريف ببنود الاتفاق المبرم مع جمعية القضاة
اطلع الرأي العام على محتوى الاتفاق المبرم مع جمعية القضاة من خلال تعريف رئاسة الحكومة به و ببنوده بصفة مستفيضة ومن خلال إخبار وزارة العدل و جمعية القضاة عن الجلستين اللتين عقداها يومي 22 و 23 ديسمبر 2020 بخصوص تنفيذ بنود الاتفاق.
أ- من أهمّ بنود هذا الاتفاق
*الترفيع التدريجي في الميزانية المخصصة للقضاء العدلي و الاداري و المالي طبق المعايير الدولية ابتداء من قانون مالية 2022.
* التعجيل باستكمال مشاريع القوانين الأساسية للسلطة القضائية بناء على ما تم التوصل إليه من أعمال والانتهاء من إعدادها وإحالتها على مجلس نواب الشعب مع طلب استعجال النظر فيها.
* دعم مقترح إحداث صندوق جودة العدالة وإدراجه بقانون المالية.
* اتخاذ كافة الإجراءات القانونية والعملية لتيسير الخلاص الشهري لمنحة الاستمرار.
* مراجعة الإطار الترتيبي المنظم لتعاونية القضاة بما يحقق جودة الخدمات المقدمة لفائدة القضاة وذلك في أجل شهرين.
* صرف تمويلات إضافية قدرها 2 مليون دينار لتعاونية القضاة بما يمكنها من إبرام الاتفاقيات الضرورية لضمان التكفل الصحي الأفضل للقضاة.
* تنقيح النصوص الترتيبية المتعلقة بتنظيم ديوان مساكن القضاة ومهامه بما يمكن من النهوض بأوضاعه ويوسع مجال خدماته ويحقق نجاعتها والاستفادة العادلة منها.
*عقد جلسة في غضون أسبوع لإعداد بروتوكول صحي تفصيلي خاص بالمحاكم والشروع في تطبيقه في الإبان.
2) رئاسة الحكومة لا تعرّف ببنود الاتفاق المبرم مع نقابة القضاة واتحاد القضاة الاداريين و اتحاد قضاة محكمة المحاسبات ووكالة تونس افريقيا للأنباء تعجز عن الحصول عليه.
لم تنشر رئاسة الحكومة بنود الاتفاق الثاني المبرم مع نقابة القضاة و اتحاد القضاة الإداريين واتحاد قضاة محكمة المحاسبات و اعتبرته يدخل »في اطار حرص الدولة على تكريس سلطة قضائيّة مستقلّة وفقا لمقتضيات الدستور وتمكينها من الآليات الضروريّة لتجسيد استقلالها وفقا للمعايير الدوليّة المصادق عليها من قبل الدولة التونسيّة » و انه »يكرّس احترام السلطة القضائيّة ويتضمّن عددا من الاجراءات المجزية المتعلقة بتكريس مفهوم القضاء كسلطة » و يوفّر »الاطار التشريعي والترتيبي الملائم للطبيعة الخصوصية للمرفق القضائي بمكوناته الثلاثة : العدلي والإداري والمالي » و أضافت بأنه حرصا على تنفيذ بنوده »تم احداث لجنة متابعة تضمّ رئاسة الحكومة ووزارة العدل وممثلي القضاة تسهر على الإشراف على تقدّم الأعمال المتعلقة بتكريس هذه القرارات وفق المخطط الزمني المضبوط لها وخارطة الطريق المتّفق عليها ».
انّ إبرام الحكومة لاتفاق 24 ديسمبر 2020 يثير عدّة أسئلة :
اولا : هل هو يتمّم الاتفاق المبرم مع جمعية القضاة بإضافة بند أو بنود لم يكن يتضمنها الاتفاق الأول أم انه يلغيه ويعوضه بأخر ؟ لسنا نملك إلى حد الآن إجابة عن هذا السؤال طالما أن الاتفاق الثاني بقيت بنوده غير معلومة مع العلم أن وكالة تونس إفريقيا للأنباء لم تتمكن من الحصول على معطيات حول مضمون الاتفاق رغم التواصل في وقت سابق اليوم الاثنين مع رئيسة نقابة القضاة التونسيين(1 ).
ثانيا ما الذي دفع الحكومة إلى الاقتصار على الإعلان عن إبرام الاتفاق الثاني ولكن مع الإحجام عن تلخيص بنوده أو التعريف بأهمّها مما جعله نوعا من الاتفاق السري ؟
لقد شاع أن هذا الاتفاق يضمّ إعفاء منحة القضاء من الضريبة و لهذا السبب لم ينشر نصه.
و ما يرجّح صحّة الشائعة أن رئاسة الحكومة لم تصدر تكذيبا وانّ القضاة كانوا قد قدّموا طلب اعفاء المنحة من الضريبة في مفاوضاتهم مع الحكومة و قد أفادت روضة القرافي الرئيسة الشرفية لجمعية القضاة أن الجمعية كانت » ناقشت الإعفاء الضريبي ولم تتمسك به عندما توضّحت عدم قانونيته وعدم دستوريته ».
فهل استجابت رئاسة الحكومة فعلا لهذا الطلب الذي لا يخفى على أحد أنّه مخالف للدستور و للقانون ؟
وهل ضمّ الوفد الحكومي المفاوض ممثّلا عن وزارة المالية ؟ و هل المالية العامة قادرة على إعفاء المنح و الأجور من الضريبة ؟
3) الاتفاق مع نقابة القضاة يخالف الدستور والقانون
اذا كان الاتفاق تناول مجال الأداء فقد خالف ما ورد في توطئة الدستور التي تنص على ان الدولة : تضمن علوية القانون …والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين والمواطنات. كما خالف ايضا الفصل 10 منه الذي يؤكّد على مبدأ العدل فيما يخصّ اداء الضّريبة و تحمّل التكاليف العامة و يحمّل الدولة واجب مقاومة التّهرّب الجبائي وخالف الفصل 65 من الدستور الذي ينص على أنه « تتخذ شكل قوانين عادية النصوص المتعلقة بضبط قاعدة الأداءات والمساهمات ونسبها وإجراءات استخلاصها. »
كما خالف جملة من القوانين ومنها الفصل 25 من مجلة الضريبة على دخل الأشخاص الطبيعيين والضريبة على الشركات الذي ينص على «ان تكوّن المرتبات والأجور والمكافآت والمنح والامتيازات الأخرى المتعلقة بها وكذلك الجرايات والإيرادات العمرية عنصرا من الدخل الجملي الذي يتكون منه أساس الضريبة على الدخل. وتصنـّف ضمن المرتبات والأجور المكافآت والمنح والامتيازات الأخرى التي يتحصل عليها الوكلاء في الشركات ذات المسؤولية المحدودة بصفتهم تلك. » (أضيفت بالفصل 42-1 ق.م عدد 58 لسنة 2010 المؤرخ في 17/12/2010).
كما خالفت الفصل 25 من مجلة المحاسبة العمومية (نقح بموجب القانون عدد 53 لسنة 2015 المؤرخ في 25 ديسمبر 2015 ) الذي ينص على انه « لا يجوز ترك حقوق أو ديون راجعة للدولة أو لمؤسسة عمومية أو لمجموعة عمومية محلية إلا بمقتضى قانون.ولا يجوز إعفاء أي كان من تأدية ضرائب أو معاليم أو رسوم أو ديون أخرى راجعة للهيئات المذكورة أعلاه إلا في الصور المقررة بالقوانين والتراتيب الجاري بها العمل».
4) هل قبلت الحكومة ونقابة القضاة بما تخلّت عنه جمعية القضاة ؟
يتضح مما كتبته السيدة عائشة بلحسن نائبة رئيس الجمعية والقاضية بمحكمة المحاسبات وعضو الوفد المفاوض في تدوينة لها أن الجمعية قدمت مقترح إعفاء منحة القضاء باعتبارها الجزء الأكبر من مرتب القاضي من الضريبة على الدخل بشكل استثنائي ولمدة اثني عشر شهرا من 1 جانفي 2021 إلى غاية 31 ديسمبر و بشكل مفصل خلال جلسات التفاوض .
ووضعت بشأنها مشروع أمر حكومي وشرح الأسباب كما تداولت بشأنه بشكل مباشر وكتابي مع رئاسة الحكومة ومع المرصد الوطني للجباية ومع وزارة المالية وقد تمت صياغة هذا المقترح بعد التشاور مع قضاة محكمة المحاسبات خاصة ممن باشروا العمل على قانون غلق الميزانية وكان التحاور والتشاور مع القضاة الإداريين خاصة حول تقديم المقترح في شكل قانون أو في شكل تنقيح للأمر المحدث لمنحة القضاء كما كان المقترح من بين المقترحات العديدة التي تم تقديمها والعمل المضني عليها وقد اتضح من هذه المشاورات أن منحة القضاء عندما أحدثت سنة 1985 كانت غير خاضعة للضريبة في الأمر الحكومي الذي أحدثها، لكن بالرجوع إلى مجلة الضريبة وخاصة القسم الثاني منها وبقراءة متجانسة ومتلازمة للنصوص القانونية نجد أن كل المداخيل والمنح تخضع للضريبة على الأشخاص الطبيعيين بنسبة 25 % أي أن المجلة قد نسخت كل النصوص التي سبقتها بما فيها الأمر الحكومي للمنحة ولا يستقيم بعد ذلك القول بأن المنحة معفاة بالضريبة بحكم الأمر الذي أحدثها إذ هي خاضعة للضريبة بحكم المجلة المذكورة .
كما أن الفصل 38 من مجلة الضريبة نص على المداخيل المستثناة من الضريبة حصريا دون التنصيص على منحة القضاء وعلى هذا الاساس لم يقع الاحتفاظ بحل الاعفاء الضريبي لا من قبل الجمعية ولا من قبل الوفد الحكومي نظرا لأنه مخالف للقانون ويبدو ان النقابة قبلت به مع الالتزام للحكومة بعدم نشره ان اعطاء القضاة اي تفسيرات او توضيحات حوله وهو ما يفهم مما كتبته روضة القرافي التي اكدت ان النقابة التزمت بالصمت حيال كل ما يرتبط بهذه الاتفاق (2).
5) هل تتستر الحكومة على الاتفاق ؟
إذا كانت الحكومة تسترت على الاتفاق خشية انّ يطّلع علية الرأي العام لتضمنه لمسالة الاعفاء الضريبي المثيرة للجدل فان ذلك لم يمنع من بداية اندلاع هذا الجدل حوله فقد عبّر مجلس الهيئة الوطنية للمحامين عن » رفضه للسياسة المتبعة من الحكومة و عقدها لاتّفاقات مع جمعيات بصفة سرّية لا تنشر للعلن » بينما » يجب ان ينشر طبقا لمقتضيات الدستور و القانون حتّى يتبيّن الجميع مدى احترامها لمبادئ المساواة بين المواطنين و المواطنات و الشفافية و العدالة و المبادئ الدستورية العليا».
هل تخشى الحكومة بسلوكها هذا أن تتحرّك الأسلاك الأخرى في القطاع العمومي و تطالب هي أيضا عملا بمبدأ المساواة بإعفاء منحهم الخاصة بهم من الضريبة؟
وذلك لأنه بالإضافة الى عدم دستورية هذا المقترح ولمخالفته الصريحة للقانون كما ذكرنا فان الاتفاق إذا ما تضمن هذه الإعفاء فان كل القطاعات ستطالب بالتمتع بهذا الاستثناء عملا بمبدأ المساواة غير انه لا أحد يمكنه أن يتصور أن وزارة المالية ستقبل به لأنه يعني خسارة ميزانية الدولة لعشرات الآلاف من المليارات بعنوان ضرائب مباشرة على الدخل وهو ما سيؤدي الى تقلص ما يسمى بالوعاء الجبائي الذي يعتبر المصدر الأول لمداخيل الدولة في ظل العجز الذي تعرفه المالية العمومية.
ولكن الى متى تتستّر عليه ؟ وكيف ستصرف المنحة المعفاة من الضريبة موضوع هذا الاتفاق إذا لم يصدر في شانها أمر حكومي ينشر بالرائد الرسمي ؟ وأمّا إذا اصدرت الحكومة أمرا و نشرته بالرائد الرسمي فقد يصبح القاضي الاداري خصما وحكما إذا تمّ رفع قضية في طلب الحكم بإلغاء الأمر بدعوى تجاوز السلطة.
و ما هي جدوى القضاء المالي المنصوص عليه بالفصل 117 من الدستور إذا ما تبين ان ممثّله أمضى على اتفاقية إعفاء منحة القضاء من الضريبة ؟ وهل يمكن أخلاقيا لمن أمضى على الاتفاق أن يصدر أحكاما على المواطنين من اجل التهرّب الجبائي ؟
وهل يكون ممثّل القضاء الإداري إذا كان أمضى هو أيضا على هذا الاتفاق خصما وحكما مرة اخرى إذا تعهّد في قضية طعن في قرار هيئة النفاذ إلى المعلومة التي تستأنف قراراتها لدى المحكمة الإدارية ؟
ألا تدفع جميع هذا المعطيات الى التجريح في القضاة الممضيين على الاتفاق المبرم يوم 24 ديسمبر 2020 و ألا تدفع أيضا في الشكّ في مصداقية القضاء واستقلاله ؟ وهل بعد إبرام هذا الاتفاق يلام المواطن على التهرّب الجبائي ؟
6) غياب الشفافية يدمر صورة القاضي
اخيرا نتساءل كما تساءل الاستاذ محمد العجمي »ما الذي يمكن أن يكون متعلّقا بتكريس استقلالية السلطة القضائية و يبقى خارج إطار العلم به من طرف الخاصة والعامة … خصوصا و أن المعايير الدولية لا تترك مبدأ أو نصا حول الاستقلالية إلا و ذكرت بشأنه النزاهة و الشفافية و الحياد … كلها في صيغة الوجوب … فهل أصبح متاحا الحديث عن استقلالية للقضاء تحاك في الغرف المظلمة».
ان إخفاء محتوى الاتفاق عن العموم و حتى عن القضاة له تداعيات خطيرة يعمق عزلة القضاة و ويتنكر لمبدأ اصيل من مبادئ الديمقراطية وهي الشفافية . (3)
» فالشفافية عنصر رئيسي من عناصر المساءلة يترتب عليه جعل المعلومات العامة والتقارير متاحة للفحص والمراجعة والدقيق ، فالشفافية تقي من ارتكاب الأخطاء في تقدير الموارد أو التصرف في الموارد او في احترام مبدأ تكافؤ الفرص. لذلك يجب توجيه كل الجهود لتعزيز الشفافية ومساعدة الأجهزة الحكومية على جعل كل شيء شفافاً وواضحاً فالإدارة بوجه عام تتيح فرصة لارتكاب المخالفات من جانب الموظفين والإخلال بشروط العمل في غياب الرقابة، ولذلك فإن الشفافية والمساءلة تتيحان مساحة واسعة لحماية المصلحة العامة (4) » ولكن شتان بين تلك المخالفات التي يرتكبها الموظفون وبين الاخطاء التي يرتكبها القاضي ذاك الذي نعتبره الملجأ الأخير لمقاومة كل الآفات الاجتماعية والتصدي لكل الخروقات والتجاوزات ..
*على الجوابي : مستشار مقررعام بإدارة بنزاعات الدولة متقاعد
الهوامش
(1) جمعية القضاة تطالب الحكومة بنشر مضمون اتفاق 24 ديسمبر… وات تونس 28 ديسمبر 2020 .
(2) روضة قرافي » انه زمن اللادولة » اسطرلاب 27 ديسمبر 2020
(3) محمد العجمي » استقلالية القضاء تحاك في الغرف المغلقة » اسطرلاب 27 ديسمبر 2020
(4) هل نحن مجتمعات شفافة؟ الشفافية ومقتضيات الحياة الديمقراطية » كمال الذيب الايام العدد 10837 الاثنين 10 ديسمبر 2018 الموافق 3 ربيع الآخر 1440