ما حكّ جلدك مثل ظفرك

Photo

وأخيرا باحت الانتخابات الأميركية بأسرارها بعد أيّام من التّشويق والغموض جعلت المتابعين لها في شدّ عصبي شديد مع ارتفاعات قياسية لنسب الأدرينالين كما أنّهم كانوا يشاهدون أحد أفلام "ديفيد فينشر" أو "كريستوفر نولان" أو يتابعون مقابلة كرة سلّة مثيرة بين "جولدن ستيتواريوز" و "كلفلاند كافالييرز" حيث لا يحلّ اللّغز أو تعرف النّتيجة إلّامع نهاية الفلم أو تصفيرة الحكم. فاز بايدن فانفجرت فرحة لدى مناصريه داخل الولايات المتّحدة الأميركية لتنتشر خارجها، ويبدو أنّ الغالبية قد افرحتهم هزيمة ترامب أكثر من فوز بايدن بعد أن أثبت ترامب بأنّه من الصّعب أن يأتي من هو أسوأ منه! فما مدى تأثير نتيجة المباراة على جمهور المتابعين وهل هما فعلا وجهان لعملة واحدة أو كما قال الزّعيم الكوبي الرّاحل"فيدال كاسترو" فردتي حذاء يلبسهما نفس الشّخص؟

_فرحة بهزيمة ترامب :

تحوّلت فترة رئاسة دونالد ترامب لأكبر دولة في العالم إلى عنوان للشّعبوية والدّجل والغطرسة والعنصرية والحمق ليتصرّف راعي البقر الأصهب بمنطق البلطجي والفتوّة صاحب الإتاوة من يمتلك حقّ القوّة المطلق ليملي ما يريده فيحصل على ما يريد.

قد لا يختلف ترامب كثيرا عمّن سبقه ممّن سكنوا البيت الأبيض في الأهداف في استباحة الشّعوب و الهيمنة و التوسّع و في تعلّقهم بمصالح الأمّة الأمريكية العليا و ما تنتجه من ثوابت و سياسات لا تتأثّر بتغيير الأشخاص،لكنّه كان الأوضح و الأكثر صراحة في التّعبير الفجّ عمّا حاول و يحاول أن يخفيه البقيّة.

في أربع سنوات حقّق ترامب ما يريد البقيّة أن يحقّقوه في عقود، تنصّل من اتّفاقيات باريس حول المناخ و من الاتّفاق النّووي الإيراني و منح الجولان المحتلّ لإسرائيل و اعترف بالقدس عاصمة لها ناقلا إليها سفارة بلده ثمّ جعل المطبّعين العرب يهرولون إليها برنّة هاتف،ألزم أذياله المستبدّين في "الجملوكيّات" العربيّة على دفع الجزية مقابل الحماية وغضّ الطّرف عمّا يقترفونه من جرائم في حقّ شعوبهم، و عبّر صراحة عن عنصريّة كامنة تجاه الأقلّيات من المهاجرين و الملوّنين و المسلمين.

مارس ترامب كلّ ذلك بصلف وعنجهية ورعونة وفجاجة وحماقة وجنون إلى درجة استشعار بعض "العقلاء" تهديدا المصالح الأمريكية على المدى البعيد لتستنفر المؤسّسات القانونية والإعلامية لكبح جماحه تفاديا للكارثة. تعديل المسار تمّ عبر الحبر والورق في إثبات لمن لا يؤمنون بذلك بإمكانية التغيير بعيدا عن الرّصاص والدم في مشهد دام أيّاما كان فيه للصّوت الواحد أثرا حاسما، مشهد انتخابي استأثر باهتمام الجميع بما فيهم جمهور من المشجّعين لا يعرفون من الانتخاب سوى اختيار المعيّنين سلفا أو في مسابقات أجمل ناقة وأحسن ماعز!

تعود أسباب فرحة البعض و ابتهاجهم الى سقوط ترامب وهزيمة أسلوبه المتسلّط الوقح الفجّ و الّذي تسبّب في نشر الكراهيّة و الحقد والعنصرية و سلوك البلطجة و المافيات، آثار سلبيّة عدّة لم تشمل فقط المجتمع الأمريكي و ما أنتجته من تصدّع و انقسام لتمسّ بقيّة أنحاء المعمورة الّتي تشهد انتعاشة كبرى للشّعبوية وللتطرّف و للفاشيّة،و هزيمة ترامب هي انتكاسة لهذا المدّ الأسود.

قد تكون من أسباب الهزيمة أيضا هو حائط المكسيك العظيم الّذي أنشأه ترامب لصدّ برابرة الجنوب فمنع الأرواح الّتي استدعتهم "بولا وايت" للنّصرة وقد تكون تأشيرات الدّخول هي من قطعت الطّريق على "الملائكة" القادمة من الشّرق!

_ما تأثير فوز بايدن؟

سيكون لتأثير صعود بايدن على دول هامش التاريخ أضعاف تأثيره في الولايات المتّحدة الأمريكية حيث المؤسّسات المكتملة المراقبة والقوانين الضّابطة وعين الإعلام النّاقد، فنحن في "جملوكيّاتنا" نتأثّر بمزاج الرّئيس الأمريكي وبخصوصياته في أدقّ تفاصيلها، إن كان يحبّ "الهوت دوج "أو "الهامبورجر" أو كان من متابعي البيسبول أو الغولف.

لنأخذ مثالا على ذلك الدكتاتور المفضّل لترامب وكيف أطلق سراح 600 من المعتقلين السّياسيين ومن ضمنهم الدكتور حازم حسني مع توقّعات سبر الآراء بفوز بايدن ليعاد اعتقال الدكتور يوم الاقتراع مع تقدّم ترامب ومن المنتظر أن يقع إخلاء سبيله بعد التأكّد من أنّ ساكن البيت الأبيض سيكون بايدن كما متوقّع أن يقع الإفراج عن آخرين كما وقع ذلك لخمسة من أقارب النّاشط محمّد سلطان كانوا مختطفين بمجرّد أن أعلن بايدن فوزه.

السّيسي كان أوّل العرب المهنّئين لبايدن كبادرة حسن نيّة وولاء للكفيل الجديد ليتبعه بن زايد في انتظار تهنئة بن سلمان الّذي أربكته اللّحظة فأرسل تهنئة لتنزانيا المتّحدة ومعونات لتركيا وهو يقاطع منتجاتها! مواكب اللّطم وسرادق العزاء الّتي أقيمت في منابر من وضعوا كلّ بيضهم في سلّة ترامب الّذي تفنّن في إذلالهم حتّى أدمنوا الاهانة مازال صداها يتردّد حتّى بعد انقلابهم مائة وثمانون درجة بمجرّد تأكّدهم من وقوع الفأس على الرّأس ليحاولوا تغيير عناوين ولاءاتهم باسم السّيد الجديد الّذي سيستمرّ في حلبهم بدبلوماسية ولطف وبدون ضجيج.

توجد فوارق أخرى في أسلوبي بايدن وترامب، فهذا الأخير بدعمه الصّريح للطّغاة وغضّه الطّرف عن جرائمهم كان يمثّل عائقا اضافيا وثقلا زائدا يجثم فوق من يجثمون على شعوبهم بما لا يسمح بأيّ تغيير، بخلاف بايدن الّذي لن يوفّر نفس الغطاء والدّعم بما يسمح بإمكانية التنفّس والحركة ويجعل من فرضيّة التّغيير ممكنة، هذا التّغيير الّذي لن يكون ولن يقع إلّا لمن أراده وسعى إليه.

و هو ما عبّر عنه شاعرنا الفذّ ابو القاسم الشّابي بقوله: إذا الشّعْبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَـاةَ فَلا بُدَّ أنْ يَسْتَجِيبَ القَـدَر وَلا بُـدَّ لِلَّيـْلِ أنْ يَنْجَلِــي وَلا بُدَّ للقَيْدِ أَنْ يَـنْكَسِـر وَمَنْ لَمْ يُعَانِقْهُ شَوْقُ الْحَيَـاةِ تَبَخَّـرَ في جَوِّهَـا وَانْدَثَـر و هو تأكيد و تفسير لقوله تعالى: "إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ "[الرعد:11] و للمصادفة أنّ الانتخابات الأمريكية الحالية وقعت تزامنا مع حملة مقاطعة المنتجات الفرنسية نصرة لرسول الله صلّى الله عليه و سلّم قائد أسمى و أعظم ثورة قيمية في تاريخ البشرية ، حملة أثبتت جدواها و جعلت ماكرون يستجدي لإيقافها، و هي ممارسة سلمية راقية لإحدى أدوات المقاومة و عمليّة فرز و تجديد للبيعة لقائد أمّة فقدت بوصلتها لتتحسّس طريقها من جديد.

الانتخابات الأمريكية هي انتخاباتهم فبايدن لن يحقّق إلّا ما انتخب لأجله وهي مصلحة من انتخبه ولن يكون المخلّص أو المنقذ أو صانع التغيير لغيره، فوزه في سياق ما جرى من أحداث خلال السّنوات الأخيرة يعتبرّ حدثا فارقا وقد تصاحبه تغيّر في اتّجاه الرّيح وما علينا سوى تجهيز سفينتنا للإبحار للخروج من النّفق المظلم، والانخراط العفوي في حملة نصرة رسول الله هو بارقة أمل لاستعادة بادرة الفعل وإرادة التغيير، واستمرار الحملة مران جدّي للمرور إلى مراحل متقدّمة من أجل التحرّر وامتلاك حقّ تقرير المصير.

وليس مستغربا أنّ المدّعين بانعدام الفوارق بين بايدن وترامب جملة وتفصيلا وأن لا جدوى في استثمار أيّة فجوة في جدار الانسداد الّتي قد تحصل هم نفسهم من يثبطون حملة مقاطعة المنتجات الفرنسية ويقلّلون من أثرها ومن نتائجها وكأنّهم في مسعاهم يريدون تأبيد ما نعيشه من معاناة وتخلّف وتبعيّة واستبداد وتكريس واقع اليأس والهزيمة. وهو ما لا يدعونا الى الاستكانة والتّواكل وانتظار حلول لن تأتي ممّن هم في نهاية الأمر لا يرون إلاّ مصلحتهم لنحاول أن نفرض ونفتكّ منهم بعض مصالحنا. و كما قال الإمام الشاّفعي رحمه الله :" ﻣﺎ ﺣﻚّ ﺟﻠﺪﻙ ﻣﺜﻞ ﻇﻔﺮﻙ ﻓﺘﻮﻝّ ﺃﻧﺖ ﺟﻤﻴﻊ ﺃﻣـﺮﻙ" علينا بأخذ الأسباب ،متوكّلين على مسبّب الأسباب و متّبعين خير من توكّل و أناب.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات