هل تكفي الفلسفة؟

Photo

كلّ حادثة إرهابية تفتح جرحا مازال ينزف ويذكّرني تلاميذ مرّوا بنا أو بجانبنا وبلَغَنا فجأة أنّهم تحوّلوا إلى إرهابيين وأذكر حادثة التلميذة المتفوقة بالمرسى التي درّستها زميلتي وقدّمت شهادة حولها إلى الصحافة العالمية وحادثة مريعة لتلميذ أعرفه كان يضرب به المثل في العقل والهدوء واستطاع أن يرتقي بنجاح ليتخرّج مهندسا حتّى نستيقظ ذات يوم على خبر قتله إثر عملية قام بها مع مجموعة.

حوادث تربكنا وتجعلنا نطرح أسئلة كثيرة: أسئلة تربوية وأسئلة فكرية وثقافية وأسئلة اجتماعية واقتصادية وأسئلة وجودية. وقد كنت دوما من المناصرين لتدريس الفلسفة منذ السنة الأولى ثانوي أي في أوج سنّ المراهقة وفي فترة التحوّلات الكبرى التي تهزّ الكيان وتصيب بالاضطراب حين لا يجد تفسيرات مقنعة.

واعتبرت تدريس الفلسفة ضروريا وسط مناخ اجتماعي غير معقلن تسلّل إليه الفكر الوهابي والوثوقية الدينية منذ الثمانينات لينتج أمّهات كنّ يبكين وهنّ يصغين إلى عمرو خالد وآباء يتسابقون لنيل مكان في الجنّة عبر التمظهر الديني.

كانت موجة كبرى لم تفلح " مدرسة الحداثة" في مواجهتها لأسباب عديدة لعلّ أهمّها أنّها بدورها تشكو خللا في فهم حداثة لم ننجح في استنباتها فضلا عن تسلّل الفساد والتمييز الطبقي وقيم السوق إليها فصارت بدورها منتجا لإنسان معطّب العقل والروح لا يحمل حلما إنسانيا مشتركا بقدر ما يحمل حلولا فرديّة يسعى من خلالها إلى إنقاذ ذاته وسط الطوفان.

أومن كثيرا بقيمة الفلسفة في مواجهة الانغلاق الفكري ونشر قيم الاختلاف التي لا تزال غريبة عن نخبة تتقاتل في ما بينها فما بالك بتلاميذ في مقتبل العمر. في أقسامنا كنا شاهدا على أجيال لم تنج من الانغلاق والوثوقية ومازلت أذكر تلميذي الذي كان يبادرني بهذه الحجة الدينية لتبرير العنف ضدّ " أعداء الله" : " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوّ الله" وكان لا بدّ من توضيح من هم أعداء الله؟ هل هم غير المؤمنين به، لا إكراه في الدين، أم الذين يقتلون اليوم باسمه؟

كان يفترض أن تكون الأقسام خلايا تفكير حقيقية لبناء العقل غير الوثوقي لولا أنّها كانت أقساما مختطفة بتصوّر للنجاح لا يتعدّى الشهادة التي كان الحصول عليها الغاية التي يجب بلوغها بكلّ السبل مما حوّل القسم من خليّة تفكير إلى خليّة " تدبير للرأس" أنتج مجتمعا معطوبا بدوره. فضلا عن اغتراب التلميذ داخلها حيث تضيع ذاته بكلّ تفاصيلها الهامة وسط المجموعة. أذكر أنّ الإرهابي / المهندس كان أغلب الوقت صامتا وقيل لي إنّه فقد أمّه بطريقة مروّعة في طفولته. لقد كان ينزف. ولعلّها الجراح الغائرة التي ينفذ منها صنّاع الموت.

هذا يعني أنّ الفلسفة وحدها لا تكفي مادام التعليم مختطفا ومادام الكلّ يسعى إلى "تدبير الرأس" منه بعيدا عن غاية بناء الإنسان المفعم بقيم العقل والعدل والحبّ، الإنسان المرح في حضوره في العالم. تعليم مختطف من مدرّس لا يجد كفافه في أجره ربّما لأنّه هو نفسه ضحيّة مجتمع استهلاكي، ومختطف من تلميذ علاقته نفعيّة لا غير مع المواد، مختطف من سلطة كان التعليم لديها حصان الإيديولوجيا الجامح، مختطف من قوى مال حوّلته إلى سلعة للبيع، مختطف من مجتمع التعليم مختزل لديه في شهادة وفرحة يعبر عنها في استعراض مشهدي كبير، مختطف من متأدلجين حوّلوه إلى مرتع للصراعات.

يبدو أنّنا لم نفكّر في الإنسان بعد، ويبدو أنّ الإصلاح يبدأ من هنا: من التفكير في الإنسان. كيف يكون؟ والمعضلة أنّنا لم نتفق بعد على هذا الإنسان كيف يكون؟ ويظلّ الأهم أن نمدّ يدنا المحبة دوما لمن يغرق. يغرق في عتمة من الكره والحقد والنقمة قد تحمله إلى تخوم الجنون.. والقتل.

أذكر أنّي مددت يدي مرّات. ولم أندم. لقد أنقذت إنسانا.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات