حمّادي الرّديسي وقيس سعيّد: الجمهوريّة والفلسفة والسّياسة والانسان

Photo

مقدّمة:

نشر الدكتور حمّادي الرّديسي يوم 3/9/2020 مقالا حول الرّئيس قيس سعيّد عنونه " قيس سعيّد، المنتحل " أثار ردود أفعال مختلفة حدّ التناقض بين المدح والهجاء بل و الشتم للوهلة الأولى ولكنّه،حسب علمي ،لم يثر نقاشا حقيقيا. وبعيدا عن كل ردّ فعل سبق أن عبّرت عنه منذ يوم وكان يتمثل في 'الأسف' على أن يكون النقاش بهكذا طريقة، سأحاول هنا نقاش المقال بهدوء كمهتم بالشأن العام التونسي. ولذلك، وقبل البدء، أرغب في توضيح أمرين: أنا لست لا فيلسوفا وعالم سياسة كما هو حال الدكتور حمّادي الرّديسي ولا من أنصار قيس سعيّد الفكريين والسياسيين بمعنى الاتفاق الفكري معه حول تصوره عن 'البناء الجديد'، ولكنني أهتم بالشأن الفكري-السياسي وصوتّ لقيس سعيّد في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية من باب "التصويت المفيد" له و"العقابي" لخصمه وأدافع عنه موضعيا وأنقده موضعيّا حسب الموقف الذي يأخذه.

وتفاعلي المختصر الآتي مع المقال هو بالتالي تفاعل مواطني سيقوم على السؤال أكثر منه على محاولة الاجابة عن بعض الاشكاليات المطروحة في تونس ولكن التي أرى أن الدكتور حمادي الرديسي حسم أمرها بسرعة وبأسلوب لا أراهما مناسبين. وتظهر السرعة في تاريخ نشر المقال الغاضب على خطاب رئاسي غاضب وكانت لها آثار حتى في النصّ الذي يحتوي على جملة مكرّرة حول الشرعية والمشروعية مثلا. أمّا الأسلوب فقد كان سجاليّا حادّا يظهر منذ العنوان (المنتحل/المحتال) ومن الاشارة حتى الى جوانب في المسيرة الشخصية للرئيس.

ولكن لنمرّ الى الأهم الذي سنختصره قدر الامكان.

1- أسئلة حول الزعيم الشعبوي :

استهل الدكتور حمّادي الرديسي مقاله كاتبا : " منذ اقتحامه السياسة عنوة ، قيل كل شيء عنه : مبتدئ ، ضعيف ، صادق ، مثالي ، منقذ ، مصاب بجنون العظمة ، مستبد ، وما إلى ذلك. وقد تمّ التركيز عن حق على شخصية الزعيم الشعبوي الذي يشترك معه في عدد معين من الخصائص: كراهية النخب، والعداء للهيئات المنتخبة والأحزاب والهيئات الوسيطة، وعدم الثقة في وسائل الإعلام، والرّيبة المعمّمة، والمؤامرة الدائمة التي تدبّرها أيادي خفية، وعبادة المنقذ الذي يتنازل ليشارك في مغامرة سياسية لم يكن مستعدًا لها. هذا في الأساس 'نموذج/ هيئة ' قيس سعيد." (انتهى الاقتباس) وهذه أسئلتي التي تتمحور حول اشكالية التميز بين 'الزعيم الشعبوي ' و 'الزعيم الشعبي' عموما:

- حول 'كراهية النخب' :

يفترض في من يكره النخب عموما ألاّ يكون من النخبة عادة. وطبعا لم يثر الدكتور حمادي الرديسي مسألة التشكيك في المسيرة الأكاديمية الشخصية لقيس سعيّد الا كي يحاول اثبات هذا، ولو بشكل ضمني طبعا ولكنه سهل الاكتشاف. ولكن لنطرح ما هو أساسي من الأمر هنا:

لماذا لم ترد هذه النقطة في صيغة عامّة فلا يقع التمييز ويقال مثلا 'كراهية النخب الحاكمة ' فقط أو حتى 'النخب الحاكمة والمعارضة المهيمنة ' مثلا؟

ولم لا يقع الانتباه الى العلاقة الجيدة مع قسم من النخب لا يمكن لأي زعيم سياسي مهما كان شعبويا الا أن يشتغل معها بل و'يحبّها ‘؟

بل ولم يقع تعمّد وصف ذلك القسم من النخبة - الذي يناصر أو يتعاطف مع 'الزعيم الشعبوي' – نفسه بكونه لا ينتمي الى النخبة كما فعل الدكتور حمادي الرديسي بالضبط في آخر مقاله كما سنرى لاحقا؟

وألا يمكن اعتبار التعميم بعبارة 'كراهية النخب' هنا بمثابة استراتيجيا سجالية من قسم من النخب المسيطرة تحديدا (حاكمة و/أو معارضة) هدفه تحقير زعيم و/أو مشروع سياسي جديد يريد تعويض النخب القديمة بنخب جديدة لا غير، وهو بالتالي حجة تلك النخب القديمة للمحافظة على هيمنتها الثقافية-السياسية في المجتمع بالارتباط بالطبقات والفئات المسيطرة القديمة وسانديها الدوليين مثلا؟

وهل يوجد في السياسة من لا ينقد النّخب أثناء الأزمات ان كان يريد تجديدا؟

وألا يكره كل الزعماء السياسيين من كل واحد من التيارات السياسية الأربع الكبرى التونسية (الليبيراليون والاسلاميون والقوميون واليساريون) نخب التيارات السياسية الثلاث المخالفة ويعمل على اضعافها وتغليب نخبه الخاصة حتى يضمن الهيمنة الثقافية السياسية؟

وألا يستثني 'حبّ النخب' الأكثر ديمقراطية والأكثر ليبيرالية نفسه نخب كل معارضي الديمقراطية الليبيرالية الجذريين كما يدل على ذلك اغتيال روزا لكسمبورغ وكارل ليبكنخت وجان جوريس غربا واغتيال النخب العراقية زمن ديمقراطية الدبابات الأمريكية في العراق مثلا؟

فهل أن 'الزعيم الشعبوي' - الذي يجب عند الحديث عنه التمييز بين الشعبويات اليمينية والوسطية واليسارية -هنا يختلف نوعيا عن باقي الزعماء أم انّه لا يختلف عنهم الا في الدرجة وفي الموقع طالما لم يعرف التاريخ مطلقا زعيما لا يحب على الأقل قسما، ولو ضئيلا، من النخبة الضرورية لتثبيت حكمه؟

أي معنى يبقى اذن لعبارة 'كراهية النخب' العامّة هذه ان لم يكن معنى استعمال التعميم المجحف كاستراتيجيا سجالية يهدف الى تقديم قسم خاص من تلك النخب وكأنّه هو 'النخب' كلّها التي يجب علينا أن نحبّها؟

وألم يصل الأمر بالدكتور حمادي الرديسي الى الاستنتاج في آخر مقاله : " ...حتى أنه كان هناك متعلّمون متنورون ، ومحترفون حقيقيون للعمل النضالي ، ليصدقوه ، ويأخذوا سعيد على محمل الجد ، مما يثبت أن المشكلة الحقيقية تكمن في تضارب النخب وهشاشة الثقافة السياسية في هذا البلد ، نقطتا ضعف استغلهما سعيد لاعتماد دجله ووهمه " ...بحيث نكتشف أنّه هو نفسه يكاد يكره 'النخبة ' التونسية ؟

فلم يلوم الدكتور حمّادي الرديسي قيس سعيد على ما يكاد، من باب التشاؤم، أن يؤمن به هو نفسه اذن؟

- حول 'العداء للهيئات المنتخبة والأحزاب والهيئات الوسيطة وعدم الثقة في وسائل الإعلام ' :

لا داعي للتفصيل هنا لأنّ القارئ يمكنه أن يقيس ما قلناه عن النخب و يطبقه على الهيئات المنتخبة و الأحزاب السياسية و الهيئات الوسيطة ووسائل الاعلام ولكن لنكتف بما يلي:

هل يقبل قيس سعيّد بالانتخابات كمبدأ في الجمهورية أم لا؟

وهل يعادي الهيئات الانتخابية لأنها هيئات منتخبة أم يعاديها بسبب نظامها الانتخابي ويدعو الى تكوين هيئات منتخبة من 'نوع جديد'؟

وهل القانون الانتخابي الحالي والهيئات الانتخابية الحالية مثالية حتى يجب علينا جميعا ألاّ 'نعاديها' ...ولو ديمقراطيّا؟

وان كان قيس سعيّد مستقلاّ ذي رؤية رافضة لوجود الأحزاب حسب قراءة خاصة به نرفضها، وهذا من حقه ومن حقنا الديمقراطي، فهل رفض الرجل التعامل مطلقا مع الأحزاب؟

وهل دعا يوما الى حلّها كلّها بقرار تشريعي أو حكم قضائي أو أمر تنفيذي مثلا؟

وألا يتعامل قيس سعيّد مع الهيئات الوسيطة سواء منها السياسية أو الاجتماعية وسواء منها ما يرتبط بالتنظيم الاداري للدولة في المستوى الجهوي والمحلي أو ما يوجد في المجتمع المدني من جمعيات ومنظمات مثلا؟

وهل صرّح أو مارس عكس ذلك حتى نذكر ذلك بسهولة رغبة في رسم صورة الزعيم الشعبوي الكلاسيكي الذي يركز على العلاقة المباشرة بين الزعيم والشعب دون وسائط بمنطق 'البيعة' مثلا؟

وهل رفض قيس سعيّد وسائل الاعلام وحرّيتها مبدئيّا أو، مثلا، عمل على انشاء اعلامه الخاص أو على الهيمنة على وسائل الاعلام العمومي، أم هو يكتفي بنقد واقع وسائل الاعلام الخاصّ والعمومي المسيطر عليه من قبل خصومه لا غير؟ وهل هذا يخالف الجمهورية والديمقراطية بالضرورة؟

ألا يعتبر التعميم حول العداء ' للهيئات المنتخبة والأحزاب والهيئات الوسيطة وعدم الثقة في وسائل الإعلام' هنا مجرّد اسقاط مبالغ فيه انطلاقا من 'نموذج مثالي' تحليلي لما يسمى 'الزعيم الشعبوي' بهدف الدفاع عن المهيمنين السابقين والحاليين في تلك الهيئات المنتخبة والبينية وفي الأحزاب والوسائل الاعلامية رغم مشروعية النقد - الديمقراطي - الذي يمكن أن نوجهه لقيس سعيد في هذه النقطة أو تلك وأساسا في موقفه من الأحزاب وتصوره عن ' البناء الجديد' للجمهورية الديمقراطية؟

- حول " الرّيبة المعمّمة والمؤامرة الدائمة التي تدبّرها أيادي خفية " :

سوف لن نربط 'الريبة المعمّمة' بخصائص نفسية لأي كان لسبب منهجي/شخصي هو تجنّب ربط ' الوثوقية المعممة' المقابلة لها بخصائص نفسية –شخصية أيضا وان كان النفسي - السياسي في الحالتين هنا حاضر لا محالة. انّ ما يهمّنا هنا هو طرح الأسئلة التالية:

لماذا يصل الأمر الى تعمّم الشك في تونس ولماذا يردّ عليه من قبل البعض بما يشبه تعميم الوثوق ويؤدّي ذلك الى خلاف قصووي بين أنصار وأعداء نظرية المؤامرة؟

ألا يقترف كلا الطرفين الخطأ نفسه - ولكن من موقعين مختلفين لا غير- بحيث لا يقابل الهوس الريبي والمؤامراتي المبالغ فيه الا بالتّطمين المقابل المبالغ فيه واللذان، كلاهما، يخفيان أمرا واقعا أكثر تعقيدا؟

ألا تعكس مشاعر وأفكار الريبة المعممة والمؤامرة وضعا اجتماعيا ودوليا يستدعي ريبة ما وضرورة ما للوعي بدور التآمر في التاريخ؟

وألا تعكس مشاعر الوثوقية الرافضة لنظرية المؤامرة رغبة ما في طمأنة الناس في وضع قد يستفيد فيه البعض فعلا من ضمور ملكة الشكّ النقدي وملكة تحليل ما وراء الظاهر الاجتماعي والدولي الرسمي بشكل يؤدّي الى القبول بلعب دور الكومبارس دون التساؤل أبدا عمّا يحدث خلف الستار؟

وفي تونس تحديدا، ألا يوجد من مريب في حياتنا السياسية وألا توجد مؤامرات تحاك على الثورة والانتقال الديمقراطي وعلى السيادة الوطنية في الداخل والخارج؟

هل انّ اللاعبين السياسيين و الاعلاميين الرئيسيين و غيرهم هم من نراهم على الرّكح أمامنا في الأحزاب و الوسائل الاعلامية و الوزارات أم نقول كما قالت تلك المرأة العربية " حبستموني، و وراء الأكمة ما وراءها " ؟

أليست المبالغة في رفض الريبة و رفض المؤامرة هي نفسها مبالغة بهدف تحقيق استراتيجية "حبس" نفسي وفكري وسياسي تمنع من معرفة "ما وراء الأكمة " ؟

وإذا كان هوس الريبة والمؤامرة غير سليم فانّه لا يكون ضارا كثيرا الا عندما لا يكون هنالك فعلا من داع لهما في الواقع. ولكن ألا يمكن التساؤل ايضا ان كان هوس الوثوقية وانعدام المؤامرة أكثر خطرا عندما يتميز الواقع بالعكس من ذلك؟

- حول " عبادة المنقذ الذي يتنازل ليشارك في مغامرة سياسية لم يكن مستعدًا لها " :

تتناسب هذه الصفة من صفات الزعيم الشعبوي في جزء منها فعلا مع قيس سعيّد حتى أنّه هو نفسه صرّح في بعض خطبه انّه يشعر بنفسه وكأنّه ' مكلّف بمسؤولية لم يكن يرغب فيها '. وهو طبعا لم يكن مستعدّا لها بمعنى أنه وافد جديد على عالم السياسة من التدريس الجامعي بعد التقاعد. الا أن عبارة 'عبادة المنقذ ' تبدو لنا مبالغة رغم أن البعض من جمهوره يتميز بنوع من المبايعة شبه الدينية للزعيم.

ولكننا نعرف جميعا،اضافة الى الجمهور السياسي الديني وعلاقته بالشيخ ، أنّ العلاقة بين الزعيم و الجمهور لا تختلف كثيرا حتى عند بعض اليساريين و القوميين و الليبيراليين التونسيين . فهؤلاء الأخيرين مثلا يفعلون نفس الشيء تقريبا مع بورقيبة ...الميّت اصلا.

ولكن الأهم هنا هو الأسئلة التالية :

لماذا لم يظهر' المنقذ' في تونس من الذين كانوا مستعدّين للمشاركة في المغامرة السياسية؟

أحسب أن الدكتور حمادي الرديسي لا يعرف فقط بل وعاش ذلك عند استقالته من 'نداء تونس" ، حزب 'المنقذ' السابق الباجي قايد السبسي وأكبر حزب في ' جبهة الانقاذ ' سابقا.

والسؤال هنا: ألا يعني هذا فعلا أن الأحزاب والهيئات الانتخابية والبينية ووسائل الاعلام المهيمنة منذ عهود ماقبل 2011 الى 2019 كانت فاشلة الى درجة ظهور 'منقذ' من خارجها جميعا؟

ألا يوجد بعض من الواقعية ومن الحقيقة اذن في التشخيص المرتبط بها كلّها؟

وهل يكفي السجال هنا مع 'الزعيم الشعبوي' دون تحليل ذلك التشخيص والدعوة الى اصلاحه وتثويره؟

وألا يؤدّي مقال كمقال الدكتور حمادي الرديسي الى عكس النتيجة المرجوة منه من قبل كاتبه ومؤيّديه عندما يكتفي بادانة الشعبوية وفق ' نماذج مثالية ' نظرية عوض أن يدعو الى ' معرفة شعبه ' كما دعا الى ذلك مناضل آفاقي قديم ذات يوم؟

2- أسئلة ... ما قبل 'الانتحال' :

في الجزء الثاني من الفقرة الأولى كرّر الدكتور حمّادي الرديسي اشاعات كون قيس سعيّد وعد الأحزاب السياسية بعدم حلّ مجلس النواب في صورة عدم دعمها للحكومة الذي شاع أنه طلب من تلك الأحزاب نفسها اسقاطها وهو من عين رئيسها واختار بعض أعضائها.ثم عرّج على خطاب قيس سعيّد عند آداء الحكومة للقسم أمامه وىعتبره خان التقليد 'التكريمي' أو 'التوسيمي' في مثل تلك المناسبات – كما فعل يوم 13 أوت أمام النساء - بما يعني أنّه حاول 'التصالح' مع الأحزاب - وهي ركيزة الحياة السياسية- ثم عاد وخان وعده بالخطاب فظهر على 'حقيقته' : منتحلا ...بل و محتالا .

الأسئلة التي يجب طرحها هنا هي التالية:

كيف يصدّق واحد من أكبر المختصين في الفلسفة السياسية وفي العلوم السياسية المعاصرة في تونس اشاعات تمّ تكذيبها بشكل رسمي أمام البرلمان أثناء جلسة اعطاء الثقة للحكومة من قبل واحد ممن كانوا حاضرين في اجتماع الأحزاب المجتمعة في قرطاج قبلها بيوم - هو زهير المغزاوي /حركة الشعب - ولم يناقشه أحد من الحاضرين في ذلك؟

وكيف يصدّق ذلك أصلا في حين أن الرئيس قال في خطابه انه لا يجب تغيير أي وزير في الحكومة بينما تصريحات الحزبين الكبيرين في البرلمان (النهضة وقلب تونس) بعد ذلك تؤكّد أنهما سيفرضان على رئيس الحكومة المكلف تغيير بعض الوزراء بعد مدّة ممّا يعني اختلافا تامّا بين موقف الرئيس وموقف الحزبين الذي كان أحدهما (قلب تونس) مقصى أصلا من اجتماع قرطاج؟

ما يهمّ هنا، اضافة الى الموقف السياسي، هو أيضا:

ما الذي يبرّر لأحد أكبر المختصين في الفلسفة السياسية والعلوم السياسية التسرع المنهجي في بناء تحليل على معطيات خاطئة بل ومفارقة للخطابات وللوقائع واصدار مقال ينشر يوما فقط بعد اجتماع آداء القسم في قرطاج؟

ولماذا يصل الأمر بمثقف مثله الى نعت الرئيس - مواربة – بالجهل وانعدام التربية باعتماد مصطلح حمّال أوجه هو مصطلح 'الأنكولتور'؟ (Inculture)

ما الفرق هنا بين خطاب قيس سعيّد المتشنّج يوم آداء قسم الحكومة وبين مقال حمادي الرديسي في اليوم الموالي له في وقت يشكك فيه الثاني من مؤهلات الأول العلمية والسياسية الشخصية؟

3-أسئلة حول الجمهورية و الفلسفة و السياسة :

في القسم الثاني من المقال استعرض الدكتور حمّادي الرديسي - داخل خلفية الجمهورية والديمقراطية طبعا وبمنهجية فيبيرية مكثفة وصارمة - تعريفات السفسطائي والديماغوجي والطاغية ووصل الى اعتبار قيس سعيّد مخالفا لهم جميعا وان التقى مع الديماغوجي في بعض الخصائص ومع الطاغية في رغبة في التسلط هو عاجز أصلا عن ممارستها باعتباره مجرّد 'منتحل' و' صانع اوهام ' لا غير.

وما يهمّنا هنا هو طرح الأسئلة التالية و هي ربّما الأخطر:

كيف 'غاب' عن الدكتور حمّادي الرّديسي أنه بهذه الطريقة لم يبق له هو شخصيا – باعتباره مؤلف المقال- في نصّه سوى موقع الفيلسوف المؤمن بالحقيقة - غير السفسطائي - بحيث يقدّم الجمهورية وكأنّها 'جمهورية الفلاسفة' والسياسيين الأكثر وضعيّة؟

وما الذي يختلف فيه - رغم المائة وثمانين درجة الظاهرة – مع الدكتور أبي يعرب المرزوقي في نقدهما لقيس سعيّد طالما أن كليهما يستبطن 'الاله الخفي' امّا الميتافيزيقي المفارق أو الفيزيقي الوضعي ويسقطه على الفعل السياسي الذي يفترض أن يختلف عن الدين هنا وعن العلم هناك؟

وكيف يمكن أن يصوّر الدكتور حمادي الرديسي الفعل السياسي وكأنه يمكن أن ينطبق تماما مع المثال النموذجي النظري الفبيبري عن ' الفعل العقلاني الهدف' في حين أنه يعرف أن ذلك غير ممكن وأن ماكس فيبر لم يقل يوما بامكان خلوّ الفعل الاجتماعي ليس فقط من ' الفعل العقلاني القيمة ' بل وحتى مع الأفعال التقليدية والأفعال العاطفية؟

ولم صوّر حديث قيس سعيّد عن الشريعة أثناء خطابه في عيد المرأة وكأنّه بالضرورة في قطيعة مع مفهومي 'الشرعية' و'المشروعية' الفيبريين إذا كانت القوانين الوضعية الغربية هي نفسها تستفيد من تأويلات بعض مبادئ الشريعة اليهو- مسيحية كما بين ذلك ماكس فيبر نفسه في كتابه 'الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية ‘؟

وكيف يمكن للدكتور حمادي الرديسي أن يتهم قيس سعيّد بأنه يريد فسخ أربعة وعشرين قرنا من الديمقراطية (منذ بيريكلاس وأفلاطون) وهو يعرف أن تاريخ هذه الديمقراطية هو أيضا تاريخ نقدها وتطويرها 'من داخلها ومن خارجها وضدّها ' في نفس الوقت؟ (والعبارة لهشام جعيط في موضوع علاقة التحديث بالدين)

ألا يهدي هذا المنطق عبيد ديمقراطية العصر ونساءها وأغرابها على طبق من ذهب الى السفسطائي والديماغوجي والى بائع الوهم وحتى الى الطاغية بسبب خطأ مقاربة السياسة بنموذج مثالي عقلاني-أداتي يقصيهم - باسم الحقيقي - بسبب طبيعة العلاقات غير المتكافئة داخل المجتمع وفي العالم حتى معرفيا- تقنيا ويزيد فيطحنهم نفسيا وفكريا بسلبهم ما يدخل ضمن مجال الفضيل والجميل من مخيالهم الذي يصنعون به خيالهم السياسي التاريخي؟

هل بهكذا خطاب يريد الدكتور حمادي الرديسي مقاومة 'الشعبوية' التي: " تغذي الخيال بقصة أسطورية حول 'مستعمرة ' ، إيكاريا (يوطوبيا اجتماعية تجمع الأفكار الشيوعية مع الكنيسة المسيحية) ، حلم يتقاسمه مؤيدوها ، في هذه الحالة ' السوفييتات اليمينية ' (يحب سعيد اليسار فقط كآلة انتخابية) ." حسب قوله؟

ولم يكرّر اتهام قيس سعيّد بتهم متداولة - كتهمة اللجان الشعبية - من خلال الحديث عن "السوفييتات اليمينية" في حين أن قيس سعيد لا يحتوي مشروعه ' المحلي' على أجهزة تجمع بين السلط (التشريعية والتنفيذية خاصة كما هو حال اللجان الشعبية والسوفييتات) بل هي فقط مجالس اقتراح تصعد ممثلين الى المجلس التشريعي الوطني الذي يبقى سلطة التشريع المركزية في المستوى الوطني دون غيره؟

ولم الرفض المبدئي للجمع بين الشيوعية والمسيحية - وكأن السياسة (الشيوعية هنا )يجب أن تكون فقط 'ملحدة' بالضرورة - و بين واليوطوبيا - وكأن السياسة يجب أن تكون فقط ' واقعية ' بالضرورة؟

ألا يفسّر كلّ هذا تحديدا لماذا فشلت النخب التقليدية الليبيرالية واليسارية في الانقاذ مما يسمّى ' القوى الشعبوية ' بحيث تسيطر هي و ' القوى الاسلامية' على المسرح في بلداننا؟

خاتمة:

وانّه لأمر غريب أن ينهي الدكتور حمادي الرّديسي مقاله بهكذا فقرة:

" الآن ماذا يفعل المحتال عندما يفضح؟ من الصعب الإجابة.يقولون إن الرجل الصادق يكفر عن ذنبه بخطية محترمة. ويقرر الحكيم أن يتجاهل ما يدعي أنه كان يعرفه، ويشرب الشوكران أو يقطع عروقه. والسياسي الحكيم يعيد تجديد نفسه. أمّا الرجل غير الناضج فيستمر. انّه يصبح أضحوكة الناس . "

انّ نقد قيس سعيّد واجب فكري وسياسي ضروري ولا محيد عنه. فأفكاره وممارساته ليست لا علما لدنيا و لا ممارسة رسولية. وحتى لو ادعى هو ذلك فنقد الأديان حق مكفول. ولكن هنالك نقد ونقد مضمونا وشكلا. ان ّ الكتابة 'العلمويّة' المتعالمة والمتعالية لا تستهوينا هي و "الكتابة الفضائحية"، لا مضمونا وشكلا؛ فليست هي ما سينفع الحوار- بل والصراع - الفكري والسياسي في تونس التي تعاني من أزمة غير مسبوقة بل هي، على العكس، لا تفعل سوى افساد الحياة الفكرية والسياسية.

ثمّ ان ' الأسلوب هو الانسان ' كما يقال، ونحن لا نريد أن نفقد انسانيتنا حتى ونحن ننقد أعداءنا.

(ملاحظة: أرجو من كلّ الأصدقاء المتفاعلين التزام حدود الاحترام عند التعليق لأن هدفي هو الحوار الفكري لا غير ولأنني سأفسخ كل تعليق يسيء بشكل شخصي الى أيّ كان ).

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات