بين مفاهيم الحماية والاستعمار والواقع المعاش

Photo

لقد عاد الجدل هذه الايام حول ما يعتبره البعض ان ما أقدمت عليه فرنسا على امتداد 70 عاما هو مجرد"حماية " لبلادنا بموجب اتفاقية ولا حاجة لاعتذار أو تعويض او مراجعة للاتفاقيات بينما يراها اخرون احتلال غاشم وظالم ومستبد قتل وعذب وشرد وسجن المناضلين وسيطر على الارض ونهب ثروات البلاد وفرض لغته وثقافته على الشعب كل ذلك بمساعدة ومباركة من أتباعا له من أبناء البلد.

لقد تعددت الآراء والاجتهادات وتمايزت الصفوف بين حقائق التاريخ وطرق التعاطي السياسي والاني مع الواقع وكثر الحديث حول المسميات القانونية والتاريخية وما يستتبع ذلك على أرض الواقع. لا أدري لماذا ذكرني الجدل بمحتوى الكتاب "الأبيض" ل تشرشل الذي صدر سنة 1922 "ليوضح" بلهجة مخففة أغراض الانتداب والهجرة اليهودية والاحتلال الذي يسميه "سيطرة أو انتداب" وكانت مسميات قانونية لتسليم جزء من الوطن العربي "فلسطين" لليهود "المساكين" والذي يرجع لوعد بلفور سيجد مسميات لطيفة وانسانية في مقابل ممارسات فضيعة وجرائم ضد الانسانية ارتكبتها بريطانيا ومن بعدها الكيان الاسرائيلي.

كان هناك جدلا دائما حول الانتداب البريطاني على فلسطين أو الاحتلال البريطاني لفلسطين والذي استمر لما يزيد عن عقدين ونصف (1920-1948). عند بداية فترة "الانتداب " أعلنت بريطانيا هدفا له تحقيق وعد بلفور، أي فتح الباب أمام اليهود الراغبين في الهجرة إلى فلسطين وإقامة "بيت وطني" يهودي فيها.

والتاريخ يذكرنا بأنه في عام 1917 احتلت القوات البريطانية القادمة من مصر القسم الجنوبي من فلسطين من الدولة العثمانية، وفرضت عليها حكماً عسكرياً. ودخل قائد القوات البريطانية الجنرال إدموند اللنبي مدينة القدس وبدأ المشروع الصهيوني الذي غلف بمسميات قانونية واتفاقات سايكس بيكو وسان ريمون.

لم يعبأ الفلسطينيون بالتسميات وهم يرون الوقائع على الارض وانتفض قادتهم ورفضت الشخصيات السياسية والدينية والمجتمعية آنذاك الاتفاقيات وكان من بينهم مفتي القدس أمين الحسيني والشيخ المقاوم عز الدين القسام ولاحقاً عبد القادر الحسيني، وزعماء سياسيين ودينيين وعسكريين آخرين، وكانت هذه هي بدايات نشوء المقاومة الشعبية في فلسطين والتي من اشكالها اضراب عام في فلسطين لمدة ستة أشهر احتجاجاً على هجرة اليهود بالرغم من " التطمينات والوعود" .

يشهد العالم أنه الى اليوم يواصل المقاومون وأبناء وأحفاد الحسيني والقسام ورفاقهم الكفاح والنضال والجهاد من أجل استرجاع ارضهم وحقوقهم التي سلبت منهم بعيدا عن العدالة والقانون وتحت مسميات واتفاقات ومعاهدات يراها خصومهم قانونية.

وبالعودة للجدل في تونس فان الملف الفرنسي كان دائما حاضرا في أذهان الشعب وبخاصة مواقف القيادات الفرنسية التي كانت دائما في صف الحاكم – ما قبل الثورة - ويراها جزء كبير من الشعب المصدر الأساسي لمشاكل تونس الاقتصادية والسياسية والمجتمعية. الجديد أن الكثير من الكتاب والمفكرين والمثقفين الفرنسيين يساهمون اليوم بأرائهم حول الحقبة "الاستعمارية وفظائعها" والتي يرى فيها بعض الساسة في تونس اتفاقيات حماية بلا تبعات.

من أهم المقالات التي اعترضتني ذلك الذي يقارن بين "الاستعمار الفرنسي لتونس" و "الاحتلال الألماني لفرنسا" والذي أنجز تحت حكومة "فيشي اليمينية" وذكر بتصريحات المارشال هنري فيليب بيتان الذي أعلن بعد تقلده السلطة قطع علاقات فرنسا الدبلوماسية مع بريطانيا، معلناً موالاته لألمانيا النازية تحت ذريعة حماية البلاد والدفاع عن مصالحها العليا، ووقّع مع الحكومة الألمانية اتفاقية هدنة، في 1940، تضمنت نزع سلاح القوات الفرنسية، وقسمت البلاد إلى قسمين، الأول وهو الأكبر (ثلاثة أخماس فرنسا) يكون خاضعاً للنفوذ الألماني المباشر، والثاني تقوم عليه الدولة الفرنسية الجديدة برئاسة بيتان ولكنه في حقيقته كان خاضعاً كذلك للإملاءات الألمانية، ولم يكن لحكومة بيتان، إلا قدر ضئيل من الصلاحيات.

كل ذلك تحت مسمى المعاهدة – الهدنة. نالت حكومة فيشي موافقة شبه إجماعية (395 مقابل 3) في مجلس النواب. أبدلت حكومة فيشي شعار الجمهورية الفرنسية (والذي هو نفسه شعار الثورة الفرنسية) "حرية. مساواة. أخوة" بشعار جديد: "العمل. الأسرة. الوطن"، وأصدرت ميثاق العمل.

وأطلقت ما سميت بالثورة الوطنية كإيديولوجية رسمية للنظام الفيشي. ولم يكن بيتان أكثر من رئيس شكلي لدولة فيشي الفرنسية وكانت كل السلطات تقريبا بيد رئيس الحكومة. ورغم قبول عدد من القادة السياسيون والمفكرون بالمعاهدة الا أن اخرون رفضوها وأقدم الماريشال شارل ديغول على تشكيل حكومة وطنية في المهجر عرفت بحكومة (فرنسا الحرة) بمساعدة الحكومتين البريطانية والأمريكية، ودعا الفرنسيين في داخل فرنسا ومستعمراتها في الخارج إلى مقاومة الألمان رغم تشكيك البعض حينها مطالبين باحترام المعاهدة التي أمضتها حكومة فيشي التي يعتبرونها اليوم خائنة وعميلة وحوكم وأعدم عدد من أعضاء تلك الحكومة والمتعاونين مع الاحتلال الالماني.

رسالتي لرجال السياسة والفكر والمؤرخين والاعلام والمجتمع المدني في تونس – من حق كل واحد أن يبدي رايه ولكن لا يليق بنا أن نعتدي على تاريخنا ونهين أنفسنا ونلعن ابائنا الذين قاوموا الاستعمار – الاحتلال الفرنسي لتونس – من المعيب لنا جميعا أن نتعرض لجراح والام أهلنا وبعضهم مازال يعيش بيننا وبعضهم الاخر دفع حياته وقدم كل ما يملك من أجل أن تستقل البلاد ويرفع العلم على كل تراب الوطن – العلم الذي يجمعنا ويوحدنا – علم تونس علم الحرية والكرامة والعزة والانتماء. ولا عاش في تونس من خانها ولا عاش من ليس من جندها.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات