محاولة للتفكير معا…

Photo

ملاحظة: النص منطلقه محاورة مع صديق يرى أنّ تحالف النهضة مع المنظومة القديمة سياسة ذكيّة واستشهد بتوكفيل الذي يرفض الأساليب الراديكالية في التغيير وينتصر للمرور الهادئ .

في انتظار أن يكتب أحد مفكّرينا كتابا شبيها بكتاب ألكسي توكفيل: النظام القديم والثورة، كتابا قادرا على تفكيك المجتمع التونسي والنظام القديم وبيان دواعي حدوث الثورة كما فعل توكفيل في تحليله للمجتمع الفرنسي وعوامل حدوث ثورته، فإنّ متابعة أفكار توكفيل ورؤيته تجعلنا نتبيّن الفرق الكبير بين ما يحدث هنا وما حدث هناك سنة 1789.

فلئن نتبيّن نقاط التقاء في بقاء القديم يلقي بظلاله على الحياة بعد الثورة فإنّ موقف توكفيل من النظام القديم هو اعتباره ثورة أولى استمرّت مع الثورة، وهو ما يجعلنا ننتبه إلى الاختلاف العميق بين ثورة حدثت في مجتمع رأسمالي ناشئ ثار على مخلّفات الإقطاع وكانت ثورة 1789 فيه " تكملة لعمل طويل سابق عليها وبدونها كان يمكن أن يتحقّق هذا العمل ذاته بصورة تراكمية تدريجية طوية لاحقة لما كان النظام قد أنجزه فعلا" ( توكفيل)

وبين ثورة حدثت في سياق اقتصاد تابع تمثّل الدول العربية فيه مجرد أقبية خلفيّة للرأسمالية العالميّة ، فالسياق التاريخي لهذه الثورات هو سياق التبعية الاستعمارية بعيدا عن معنى الاستقلال الحقيقي والسيادة الوطنية.

حضورنا في العالم بهذه الكيفية التابعة يجعل الموقف من النظام القديم مختلفا. فلئن يرى توكفيل أنّه يمكن البناء انطلاقا من القديم دون الحاجة إلى سياسة راديكالية ( وهو موقف تعود جذوره إلى ديكارت) فإنّ الأمر هنا في بلادنا يثير إشكاليات عدّة:

فهل يمكن البناء على أساس خيارات اقتصادية تابعة للقديم الذي يُراد ابتلاعه بمنطق المصالحة والتوافق أم أنّ القديم قد يبتلع صاحبه ويلتهم معه ثورته وهو ما نتبيّنه في استمرار نفس نهج التبعيّة ونفس الفساد المتغلغل؟

وفي المقابل، هل هناك اليوم ( حتى في الأحزاب القريبة من الثورة ) من يملك فعلا من الرؤية والتصوّر والبرنامج العملي ما به قادر على فكّ التبعيّة والارتهان ولو قليلا للخارج أم سيظلّ الأمر مجرّد إعادة إنتاج للقديم مع أغلفة جديدة؟

هل هناك من يملك حلّا حقيقّا لدولة الفساد التي تمتدّ عروقها إلى آخر تربة في الوطن؟

على الأقل، هل هناك من هو قادر على البناء على القليل الذي تمّ تحقيقة من خلال هيئات وطنيّة مثل هيئة الحقيقة والكرامة ( بغضّ النظر عن الأخطاء )؟ أم سيقع التعليل كالعادة بقوّة المنظومة القديمة؟

وإذا اتّفقنا على أنّ الطبقة المالكة للسلطة والمال هنا ليس من صالحها فكّ الارتهان وأنّ أغلب مصالحها تقتضي الإبقاء عليه بل نجدها تدفع بمرشّحين ضعاف لجعلهم مجرّد دمى يحرّكونها كيفما شاؤوا ومتى أرادوا فيغيّرون ما أرادوا في الدستور، فهل تكفي شعارات السيادة الوطنيّة وفكّ الارتهان لانتخاب الأحزاب التي ترفعها في المعارضة؟ يعني هل هناك تيّار شعبيّ قويّ قادر على فرض التحرّر من هذه القبضة؟ وهل تمّ الاشتغال طوال هذه السّنوات على تشكيل هذا التيّار؟ أم أنّ الهاجس في المعارضة كان دائما الوصول إلى السّلطة وافتكاك بعض المناصب؟

وإذا علمنا أنّ بعض مافيوزي هذه الطبقة المرتهنة للخارج الحامية لمصالحها في الداخل قادرون حتى على ارتكاب الجرائم بأنواعها من أجل الإبقاء على نفوذهم ( التصريحات الأخيرة لأحدهم ) مقابل شعب في أغلبه مفتّت الكيان متشرذم الوجود منهك بالفقر والجهل مدمّر في وعيه وصحّته مكبّل بقصف العقول ضعيف القيم والمبادئ انفعاليّ وبافلوفي باحث عن الحلول الفرديّة ولو كانت الدوران في فلك اللصوص، شعب لم يجد من يحتويه فحتّى يساره الذي يدّعيه تفكّك وانفجر، فهل هناك مغناطيس ما قادر على إخراجه من بؤرته وتحريره من التلاعب المافيوزيّ والفاشيّ التي يتهدّده؟

يرى توكفيل أنّ هناك كتلة تاريخية كانت قادرة على إحداث التغييرات في الثورة الفرنسية هي الطبقة الرّأسمالية الصاعدة التي اكتملت مع الثورة وما أنتجته من نضالات ضدّها ساهمت في تحقيق "الديمقراطية من الأسفل".

هنا، لم تتشكّل طبقة وطنية رأسمالية على هذا النّحو، بل نجد في الغالب أصحاب مصالح تفرّقهم وتجمعهم مصالحهم الضيّقة، ولم يحدث بعد من الاشتباك معهم ما يكفي لبناء وعي حقيقيّ.

أمّا الطبقة المتوسّطة لدينا، فهي طبقة عجيبة قادرة على أن تتوحّد في سهرة للضحك والتهكّم على جبّة مستشارة الرئيس المنقضي وشكلها، ولكنّها غير قادرة على التوحّد ضدّ مافيوزي يصول ويجول في البلاد، فبعض مثقفي هذه الطبقة اليتيمة يرتمون في حضن رئيس حزب متهرّب من الضرائب، وآخرون يدفعهم اليتم إلى الارتماء في أحضان فاشيّة تعد بملء السجون، وآخرون منساقون وراء البراغماتيين الجدد بأنواعهم ( بالمعنى الإعلامي التونسي الجديد ) وآخرون حائرون بين أسماء كلّ من يدّعي وصلا بثورة.

هذا يعني أنّنا لم ننجح طوال هذه السنوات في تشكيل كتلة ما قادرة على الضغط الحقيقي على الأقل. الضغط حتى من خارج السلطة.

السؤال الأخير: هل هناك من هو قادر على تقديم أجوبة جديدة بلغة جديدة ورؤية جديدة بعيدا عن الخطاب المتهافت كلّ يوم؟

أجوبة على أساسها يكون الانتخاب.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات