كلهم ديمقراطيون.. لكنهم يعبثون بالدستور!

Photo

في الحديث اليومي الجميع ديمقراطي ويزايد، ولكن في المحصلة لا أحد يحترم الدستور. هذا ما يمكن أن نخرج به من تقييم سريع لآخر أزمة يعيشها الشارع التونسي بعد اختفاء غريب للرئيس، وصدور تبريرات من جهات غير ذات اختصاص بخصوص تلدده في إمضاء التعديل على القانون الانتخابي.

يسود الآن في الشارع التونسي حالة من الغموض والحيرة: أين الرئيس؟ ولماذا لا يتكلم وهو الفصيح عن التعديل في القانون الانتخابي رفضا أو قبولا؟ الغريب أن بعض الذين تحدثوا باسم الرئيس ليس لهم الصفة للحديث، وبالتحديد ابنه؛ فهو زعيم حزب وليس من طاقم الرئاسة.

وبقطع النظر عن هذا الاستشكال القانوني، نحن إزاء حالة من العبث بالدستور (شكلا ومضمونا). والأغرب في المسألة أن العابثين به هم أعلام الحديث في الديمقراطية، فكيف يستوي أن يكون المرء ديمقراطيا ولا يحترم دستور بلاده؟ هذه هي الحالة التونسية.. الآن لنفصل بعض الشيء.

الدستور مكسب الثورة الوحيد

لا مغانم اقتصادية واجتماعية من حكومات ما بعد الثورة.. فشل مطلق، وخاصة بيد حكومة الشاهد الأخيرة (ثلاث سنوات) الوضع الاقتصادي والمالي يتردى، حتى أن الحكومة ووزير الفلاحة بالتحديد يعجز عن استيعاب صابة الحبوب وخزنها، حيث تتراكم الآن كميات من القمح في الهواء الطلق، وستدركها أمطار الخريف العاصفة فتصير أعلافا للحيوان.

ولو عددنا فشل المسؤول الأول عن غذاء التونسيين لما كفانا المقال، فهو الوزير الذي لم يجد حلولا لفائض الحليب في موسمه، ولفائض الحمضيات في موسمها.. وهو الوزير الذي لم يحم منتج البطاطا والبصل والثوم من لصوص الاستيراد الذين يعششون في وزارة التجارة ويكسرون ظهر المنتج التونسي. وعلى نموذج وزير الزراعة تعمل الحكومة.. عمليات تدبير يومي، وبلغة التونسيين نقل "شاشية زيد على رأس عمر" وترك الناس لمصيرهم المجهول، فيما الدينار ينهار أمام العملات الأجنبية.

من كل مكاسب الثورة النظرية والمأمولة لم يبق إلا نص الدستور، وهو يتعرض الآن لعملية امتهان ستجعل منه نصا أقل قيمة من الورق الذي كتب عليه. وتنكر الرئيس (إن كان لا يزال على قيد الحياة) لالتزاماته هو أكبر اعتداء يتعرض له الدستور الذي فاز به التونسيون من الثورة، ويبدو أنهم سيخسرونه قبل حلول الموعد الانتخابي.

النخب في حالة انتظار معجزة

الجميع يتحدث عن حالة احتجاز الرئيس والتكلم باسمه، وهو وضع دستوري يقتضي تحريك آلة الدولة لسد الشغور وحماية الأمن الوطني، وضمان سير الدولة ولو في الحد الأدنى. لكن جميع رؤساء الأحزاب والشخصيات المتزعمة للشأن العام صامتون وينتظرون شيئا ما.. ماذا ينتظرون؟ لا نفهم سلوكهم، ولكنهم يعيشون من وضع الانتظار الذي يجنبهم تحمل مسؤولية المرحلة ورمي الفشل على غيرهم. والحقيقة أن هذا الصمت ميزة للنخبة التونسية التي تتواكل على عوامل الزمن والطبيعة؛ أكثر مما تعوّل على فكرها وشجاعتها للخروج على التونسيين بأفكار وقرارات ومواقف حاسمة في اللحظات المفصلية.

إننا نرى، رغم بُعد الشقة، أثر الزعيم بورقيبة في العقول وفي النفوس. لقد منع الجميع من التفكير، ودربهم على انتظار قراراته، فتربوا عاجزين مسوّفين يؤجلون المواقف حتى يحدث الله أو القدر أو الزعيم حدثا ينقدونه أو يتفقون معه، ولكنهم لا يبادرون. هذه اللحظات من زمن تونس هي لحظة مبادرة، ولكن لا مبادرة بل انتظارا وتمنيا. ماذا يتمنون؟ الأماني تختلف وتكشف طبيعة النخبة العاجزة. في هذا العجز استهانة بالدستور الذي هو خلاصة الدولة ومؤسساتها التي تحتاج إلى نجدة في زمن الوهن. الجميع إذن في ورطة العبث بالدستور.

من استهان بالدستور فقد استهان بالشعب وحقّر رأيه

الخلاصة البسيطة دون كلمات كبيرة مما تدرس " الأكاديميا المغرورة" من لم يحترم الدستور لم يحترم الشعب. وهذا ما يجري الآن بكل بساطة.. الطامعون في السلطة دون المرور بالصندوق هم من يحاصرون الرئيس (أو يقتلونه). لقد انكشف لهم مصير مظلم بالصندوق الانتخابي، فهم يحاولون قطع الطريق عليه. ولقد فعلوا الكثير لكسر المسار الانتقالي رغم قلة مكاسبه الاقتصادية والاجتماعية، ولكن الوعد الانتخابي ما زال يهدد وجودهم، لذلك يسقطون في مناورات أقل وصف يلائمها أنها مناورات إجرامية معادية للشعب ولدستوره، وبالتالي معادية لمصلحة البلاد وأمنها في لحظة تاريخية حرجة.

الاعتداء على الدستور معركة سياسية؛ حتى الآن يفوز فيها المعادون للدستور، أما الذين يؤمنون بالدستور ففي حالة وهن غريبة تحفّز أعداءهم أكثر مما تنقذ دستورهم. وجب الرد بما يناسب روح الدستور كإعلان تحالف سياسي دستوري يمنع المناورات الأخيرة من النفاذ إلى مبتغاها، وهو قطع المسار الانتخابي أو إفساده ليفرز حكومات طيّعة للفساد الذي عاشوا منه حتى الآن.

هذا التحالف الدستوري يبدأ باستشعار حالة القلق الفعلية على مصير البلد (تحالف إنقاذ)؛ يعلن مهمة وحيدة حماية لدستور ودفع المسار الانتقالي على أساسه نحو بر أمان في الحد الأدنى، أي مساحة سياسية لا يغشاها أعداء الدستور.

لقد تحمل الناس فشل الحكومة، وأجّل الكثير من العقلاء مطالبهم على أمل أن الانتخابات تغير الحكومات، ولكن ما يجري الآن لا يبشر بخير، واحتمال أن تجرى الانتخابات بقانون مفتوح لمافيات المال الفاسد والعمالة للخارج وارد جدا، بما يعني إفراز برلمان فاسد منذ اليوم الأول؛ يُنتج حكومات لحماية الفساد ودعمه، وبالتالي امتهان الدستور وإلغاؤه، إذ تسقط قيمته كنص وكرمز وكمكسب ثوري.

إن النخبة السياسة التونسية تتعرض إلى اختبار حقيقي لجديتها والتزامها، ولقدرتها على الخروج بموقف وطني دستوري وثوري يدفع بالبلد إلى بر أمان.

أكتب هذا بلا أمل كبير، فكثير مما يتابع هذه المناورات ينتظر لها النجاح لأنها تمنحه إمكانية التخلص من خصوم لم يقدر عليهم بالصندوق؛ فقال في قرارة نفسه: ربما أقدر عليهم بالصمت على الفساد ثم ليكن أي أمر.

هذا هو جوهر تفكير النخبة التي ناصرت بن علي ضد الإسلاميين في أول التسعينيات، فلما استبد الفساد كانت من ضحاياه ولم تكن من الكاسبين.

روح مريضة تجعل كل احتمال تفكير في معجزة سياسية تونسية توقف العبث بالدستور نوعا من الكفر.. قد نكتب قريبا عن سقوط دستور الثورة التونسية.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات