المثقف العربي الحزين

Photo

المثقف العربي نائحة جنائز يعرف كيف يثير دموع المعزين ويدفعهم إلى النواح، لكنه نائحة مستأجرة، فهو من أسرع الكائنات انتقالاً من موقع النائحة إلى موقع المبرر لأسباب الموت، وليس في الوطن العربي من سبب لموت الأرواح والأجساد غير الأنظمة الحاكمة، التي تبدع منذ قرن في تحويل المثقفين إلى نائحات ثم إلى وسائط صرف الجمهور عن ألمه. لماذا يشتغل المثقف نائحة؟ ولماذا يغير موقعه بسهولة؟ وهل هي طبيعة المثقف عامة أم خصوصية في المثقف العربي ابن الثقافة العربية؟ أسئلة أكبر من مقال واحد ولكن سنقارب ونشير.

نموذج المتنبي وكافور الإخشيدي

جاءه يلعق بقية فنجانه طمعًا فلما لم ينل منه وطرًا قال إنه من الأنجاس المناكيد، لم يتغير الأمر إلا قليلاً. ربما يبدأ المثقف العربي الحديث بلعن كافور فيقربه فيرضيه فيلعق فنجانه ويقول عن الشعب أنجاس مناكيد، فالمطلب واحد عند المثقف، الغنيمة ولو على حساب الكرامة والأخلاق.

توجد صورة مثالية عن مثقف من ذوي الرأي والمشورة يرى الحق حقًا ويسير في خدمته. هذه الصورة مبنية وليست حقيقة واقعية، فقد بنيت من مثاليات مشتهاة لدى الجمهور الباحث عن قيادة، وألفها المثقفون أنفسهم كنوع من الأماني إلى يودونها ويعجزون دونها فحكمت عليهم فمالوا إلى تمجيد الواقعية بجمل من قبيل العمل على التغيير من داخل السلطة عوض معارضتها بلا جدوى، وهي الجملة المفتاح للدخول في قفص السلطة ونيل مكرماتها والتدرج في نسيان مطلب التغيير من الداخل والخارج ثم الانتهاء إلى لعن الجمهور الغبي.

ماذا يبكي المثقف في النهاية؟

يعلن المثقف العربي حزنه على الوطن ويبكي المواطن المقموع ويؤلف في الشعر والرواية والسينما والبحث الأكاديمي أيضًا لينتج مناحة عن ضياع أمة وشعب ووطن، وفجأة تفتح له السلطة بارقة غنيمة فيلحس أحزانه ويقوم لمصلحته الشخصية فإذا هو وزير (وأحيانًا قنصل مجهول في سفارة بلا مهام) في دولة مبارك أو بن علي أو بشار أو عباس أوسلو (لا فرق في الحجم)، بل لقد رأينا مثقفين قضوا خمسين سنة في لعن نظام آل سعود ثم وجدناهم فجأة يقبلون على جوائزهم ويبررون لهم قتل أهل اليمن لأن أهل اليمن رجعيون، وقد كانت هذه من النكات السياسية العربية التي لم تضحك حتى قائليها.

هناك مناحتان نسمعهما منذ نصف قرن على الأقل، مناحة الإسلامي والعروبي على التاريخ العربي الإسلامي العظيم الذي دمره العلماني اليساري الكافر، ومناحة اليساري العربي التقدمي على حاضر تعيس صنعه إسلام جنائزي يتمسك به إسلامي متخلف ورجعي، فواحد يبكي تاريخًا موهومًا والآخر يبكي واقعًا لا يفهمه، وكلامهما يتهم غيره بالمصيبة القائمة، وقليل منهما من يتهم السلطة التي قطعت مع التاريخ ولم تبن الحاضر. مثقفان مغتربان محتربان تكفيريان إقصائيان يشتغلان لصالح أنظمة عربية معادية في جوهرها لكل ثقافة.

هل مناحة المثقفين العرب من أجل تغيير حالة بلدانهم نحو الأفضل؟ ظاهر الخطاب (النواح) كذلك فهم عضويون ملتزمون مقاومون مناضلون في الخطاب ضد السلطة وضد الإمبريالية وضد الاستكبار ومن أجل الإنسان، ولكن لماذا لم يترق وعي هؤلاء المثقفين إلى أن صراعهم على التاريخ والحاضر هو أول أسباب الأزمة التي تجعلهم غير فاعلين في التغيير وتنتهي بهم غالبًا إلى حضن السلطة يائسين من كل نتيجة لفعلهم الثقافي؟

لا أميل إلى التحليل بضعف الوعي بل بوجود قصد من وراء خطاب المناحة هو لفت نظر السلطة إلى حسن استعداد المثقف للخدمة والسير في الركاب، ومقابل درجة النواح أو عمقه يحدد المثقف ثمنه من وزير إلى قنصل أو إلى راتب جيد في مكان مجهول، فالمهم تحسن الوضع المادي وبعض الاعتبار الاجتماعي وضمان التقاعد المريح. لماذا لا آخذ المثقف العربي بالجدية الكافية وأراه تاجرًا صغيرًا؟

الترقي الاجتماعي لا يكون بالنضال المبدئي

لقد تم قبول الدرس السوسيولوجي لبورديو عن دور المدرسة كمصعد اجتماعي، وأرى في هذا الدرس تجاوزًا فعليًا لفكرة رومانسية يسارية المنشأ عن المثقف العضوي المنتمي إلى قضايا الفقراء والمدافع عن العدالة، فالمدرسة فتحت الباب للتقدم في السلم الاجتماعي فوجد كثير من أبناء الطبقات الشعبية أنفسهم في مواقع تؤهلهم لقيادة الدولة ولأن الدولة ليست منفتحة أو ليست عادلة فإن فرصة الجزاء المعادلة للكفاءة لم تتح لهؤلاء.

ولعل الدولة نفسها التي رعت المدرسة عملت على وقف مسارات الترقي عند دور الخبير ولم تطلب المثقف أبدًا، لذلك وجدنا هذا المثقف النائحة الذي عجز عن الدخول على الدولة من موقع كفاءته (التي لم يختبرها أحد) فمكث تحت أسوارها باكيًا، ففتحت له فدخل فانقلب على طبقته ومنشأه وبرر للسلطة غلق الباب في وجه كل قادم جديد. هذا الانقلاب من طبيعة المثقف وليس غريبًا عنه.

الترقي الاجتماعي لا يكون من أجل الجماعة بل من أجل الذات الفردية (صناعة المكانة الاجتماعية الخاصة ضمن الجماعة أو تملك رأس المال الرمزي والمادي)، حتى إذا ضمن المثقف بالمدرسة شهادة عالية تؤدي إلى راتب جيد ومكانة اجتماعية مرموقة توقف عن خطاب الانتماء وبدأ في تطويع خطاب التغيير من الداخل، فإذا لم يثمر الغزل بالسلطة انقلب نائحة من جديد وربما تطرف في نواحه حتى يصير مصدر أحزان ثقافية شاملة (وهو ما أجده في منتج محمد الماغوط الثقافي مثالاً).

تصبح كل القضايا الواردة في خطابات المثقف ذرائع زائفة لمكانته فهو ليس مشغولاً كإسلامي أو عروبي بقضايا الأمة وتجديد فكرها وهو ليس مشغولاً كيساري بحقوق الفقراء والطبقة العاملة أو تثوير التراث الثقافي والقطع مع الرجعية. هذه القضايا الذرائع أعيد فيها القول لمدة قرن كامل وسيستمر فيها القول ما دامت تصلح طريقًا لتبؤ مكانة اجتماعية، إنها قضايا تستعمل كمراقي اجتماعية للمثقف، وعلاجها يعني سقوط وسيلة المثقف واضطراره إلى اختراع قضايا أخرى وهو أكثر كسلاً من أن يفعل أو أن يجدد. هل هو كسل طبيعي؟

نعم إني أراه كذلك يكفي أن يحرر المرء نفسه من وهم رسولية المثقف وهي المهمة الخيالية التي اخترعها قرامشي (وهو مكبل في سجنه يتمنى أكثر مما يحلل) لنصل إلى حقيقة بسيطة ليس المثقف من يقود بل رأس المال وإذا لم يكن لرأس المال خيال أوسع من الربح السريع فإنه لن يقدر بدوره على القيادة.

في المنطقة العربية برمتها لم نر رساميل تفكر في الثقافة وتستعين عليها بالمثقفين لذلك لم يحصل تجديد ثقافي ولم يجد المثقف بابًا للترقي غير التزلف للسلطة بلعنها مرة وبالتمسح بها مرات. كانت هناك حالة مال خليجي مول سينما مصرية تافهة فقدمت نموذجًا دالاً على مال فاسد ينتج ثقافة فاسدة بممثلين (مثقفين) بلا شخصية ولا مشروع بل بمطامح مادية فقط لا غير.

نكتب هذا ونحن نقارن ضمنًا بدور رأس المال في النهضة الفكرية والثقافية في أوروبا خلال القرنين الـ18 و19 وحتى الآن حيث حفزت التمويلات الخاصة أعمالاً ثقافية ومثقفين قادوا بعد أن تحرروا ماديًا من الوقوع تحت مغريات السلطة، فلم يراودوها ولم تغوهم إلا قليلاً.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات