القانون الانتخابي في تونس: عاهة الديمقراطية

Photo

إنهم يهربون من الموضوع.. يودون أن لا يثار أبدا، وهم أعرف الناس بأنه عاهة التجربة، فقد ولدت به معوقة وتستمر مشلولة، وربما يدفعها إلى الانتحار السياسي. عن القانون الانتخابي التونسي سأتحدث في هذه الورقة.

لا يسمح هذا القانون لأحد بالانتصار والحكم. لقد وضع لكي لا يفلح أحد بزعم فلاح الجميع، فلم يفلح أحد. آخر الأدلة عملية إعادة انتخاب مجلس بلدي في مدينة صغيرة اسمها "السوق الجديد" في سيدي بوزيد (وسط).. لقد سقط المجلس المنتخب منذ سنة؛ لأن الفائزين عجزوا عن التحالف والتوافق، لتعددهم وتساوى قواتهم في المجلس. حل المجلس وأعيد الانتخاب، ففاز الجميع وسيتعطل الجميع، وسيحل المجلس لأن القانون الانتخابي أراد ذلك.

قانون بن عاشور

في طريقه إلى الطائرة هاربا، كلف بن علي؛ عياض بن عاشور بهيئة تراجع القوانين التونسية، لترسي الديمقراطية التي لم تخطر على باله طيلة ربع قرن. لكن هيئة أخرى ولدت سماها التونسيون "هيئة تحقيق أهداف الثورة"، فكانت هيئة تشريعية غير منتخبة؛ حُشر فيها ما لم يحشر في سفينة نوح، فخرجت بقانون انتخابي أجريت على أساسه انتخابات 2011، ومن يومها وتونس تتقدم معقولة القدمين، كناقة عشواء تخبط خبطا. فهل هي فعلا تتقدم؟

كان لهذا القانون هدف رئيسي، هو منع حزب النهضة الإسلامي من الفوز بأغلبية تمكنه من الحكم. وقد كان بن عاشور وجماعته الفرانكفونية قد أيقنوا أن حزب النهضة لم يندثر في زمن بن علي، بل عاد أكثر قوة وتنظيما وهو في طريقه إلى الحكم. لذلك وضعت بالقانون كل المعيقات لكي لا تكون لحزب أغلبية، وكان العنوان الدعائي هو إشراك الجميع في إدارة المرحلة الانتقالية، وقد زاد فيه بن عاشور وجماعته عائقا مثيرا للشفقة، هو قانون المناصفة.

وكان ظنهم أن حزب النهضة "الرجعي المتخلف" لن يقبل إشراك النساء في قوائمه الانتخابية لكي لا يشاركن في إدارة البلد، فالإسلامي يؤمن بأن القوم الذين يولون أمرهم للنساء لا يفلحون. وكان من السخرية أن الإسلاميين رحبوا بقانون المناصفة، ووجدوا في حزبهم نساء لكل قائمة انتخابية، بينما عجز دعاة المناصفة عن إيجاد نساء مسيسات في صفوفهم، فالتقطوا من الطرق لاستكمال شكل القائمة. ومن حسن حظ التونسيين أن قوائمهم سقطت، إلا قليلا.

لن نعود هنا إلى نتائج 2011، ولكن المجلس التأسيسي تعطل وعجز عن الحسم، فلم يكن فيه حزب غالبية يحسم التصويت. وهو ما سيعود في برلمان 2014-2019؛ الذي ينهي عهدته وقد راكم على رفوفه مئات النصوص التي لم يفلح في مناقشتها والتصديق عليها؛ لأن صراعاته الداخلية كانت تنتهي دوما بتأجيل العمل.

الحرب على النهضة تعيق الديمقراطية

العقل الإقصائي الذي وضع القانون الانتخابي ما زال متحكما في العملية السياسية في تونس، عبر القانون الانتخابي. فبعد ثماني سنوات من الثورة لا يزال حزب النهضة هو الحزب الوحيد القادر على الفوز بأي استحقاق، ولكن فوزه لا يحرر العملية السياسية؛ لأن القانون الانتخابي ما زال على حاله، رغم أن الجميع انتبه إلى العوائق المدسوسة فيه.

الانتخابات البلدية التي أجريت في 2018 أعطت مجالس بلدية تمثل الجميع ولا تمثل أحدا، لذلك تعيش هذه المجالس حالة انسداد سياسي وتعجز عن الفعل. الجميع يلقي العبء على الجميع ويتهم غيره بالتعطيل ولم تظهر أية نتائج تجعل الناس مطمئنة إلى عمل المجالس. وكمية الجهد المبذولة في التسويات تستنزف كل الجهد الفردي والجماعي.

النهضة لم تمنع خصومها ومنافسيها من أن يكونوا أقوياء وقادرين على الفوز، فعوائقهم ذاتية، وليست بسبب وجود حزب النهضة في المشهد. وينطبق هذا خاصة على الأحزاب التي تضع نفسها في المعارضة. لقد مرنت جميعها على اتهام النهضة بكل العيوب، ولكنها لم تقدم نقدها الذاتي، فهي بريئة. لا أتحدث هنا عن أحزاب المنظومة التي تشظت وجرت معها تعطيلات كثيرة أفشلت عملية الانتقال الديمقراطي في حده الأدنى، فهي لم تكن مؤهلة يوما لتعيش الديمقراطية أو تطورها.

العمل السياسي يجري في تونس طبقا لقاعدة ثابتة؛ هي نفس قاعدة وضع القانون الانتخابي كيف تمنع النهضة من الفوز. النهضة تساير هذا الوضع في عملية مطاولة تستهدف انتباه الناس إلى العائق الحقيقي، وقد تكون بدورها استمرأت التخفي وراء القانون. فحالة البلد الاقتصادية مخيفة، والتصدي لها يتطلب شجاعة كبيرة وتحمل مسؤولية رهيبة في ظرف تاريخي حساس. ولكن بالقانون الحالي لن يتحمل أحد عملية إخراج البلد من أزمته، ولذلك فإن عمر القانون الانتخابي سيكون طويلا والعطل الديمقراطي سيستمر.

من يتحمل مسؤولية المرحلة؟

هذا هو السؤال الذي يجب أن يقود مراجعة القانون الانتخابي. يجب أن يكون هناك حزب غالبية يتولى الحكم، ويجب أن يقتنع الضعيف بأن مكانه المعارضة حتى يستقوي لينافس على المركز الأول، سواء استثمر في أخطاء من يحكم أو تجاوزه بالاقتراح الشجاع والمسؤول.

لقد ظهرت بوادر وضع العتبة الانتخابية، وقيل إنها ستكون 5 في المئة، وقيل 3 في المئة، وهي بادرة أولى لاستبعاد الحزيبات الصغيرة غير ذات الوزن في الشارع، وهي خطوة مهمة ولكنها لم تمس جوهر الموضوع العائق. حتى بالعتبة الانتخابية، نحن مقبلون على برلمان مشتت يدخله الكثير بقانون أكبر البقايا.

سيقرأ الكثيرون هذا الكلام على أنه ميل إلى تمكين حزب النهضة، وهذا أبعد عن نوايا الكاتب وفكره. فليس المطلوب تقوية النهضة، ولكن تقوية حزب أو تحالف متجانس حول برنامج يتحمل المسؤولية في مرحلة، كائنا من كان (ولا أحد منع أحدا من أن يكون قويا، فالقاعدة الانتخابية الواسعة ماكثة خارج الصندوق بعد. خمسة ملايين من ثمانية ملايين ناخب لم يشاركوا في انتخابات2014 ).

حزب متجانس يمكنه أن يحكم، هذا ما يضمن المرور من المرحلة الانتقالية إلى مرحلة استقرار السلطة والبدء في إصلاح حال البلد المنهارة. فإذا أفلح كان ذلك ما يبغيه التونسيون خارج صراع النخب الكلاسيكي الإقصائي في جوهره، وإذا فشل، وهو احتمال وارد وغير مرفوض، كان فشله بالذات مرورا إلى استقرار أدوم، فليس أفضل من اختبار الحكم لفرز المتقولين في السياسة.

اختبار الشارع للحكم هذا ما ينقص التجربة التونسية بعد ثمان سنوات من التجريب حكمها قانون انتخابي فاشل ومنتج للفشل والذرائعية والتملص من المسؤولية. فالجميع يتهم الجميع، والمجالس عاطلة، والبرلمان عاطل وسيزداد عطالة.

مطلوب من حزب النهضة بالذات أن يتحلى بشجاعة كافية ليعمل على تغيير القانون الانتخابي ويتقدم للحكم، إن كان فعلا قادرا على ذلك (ولا نظنه). ويكفي التخفي وراء لغو التوافق، وأن تونس لا تُحكم من حزب واحد، والتونسيون إخوة. هذا تسويق رديء للعجز والخوف والنكوص. يجب مواجهة الحقيقة بشجاعة: قانون بن عاشور الانتخابي أعاق بناء الديمقراطية في تونس.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات