الغنوشي بفرنسا: ماذا تريد باريس هذه المرة؟

Photo

أعادت زيارة السيد راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة التونسية، إلى فرنسا الأسئلة الكثيرة والعويصة المدفونة إلى السطح مجددا. من هذه الأسئلة تدور حول تحوَّل موقف فرنسا من الغنوشي من عداء مطلق إلى دعوات رسمية؟ وهل يفلح الغنوشي في تعديل العلاقة غير المتوازنة مع فرنسا منذ قرنين لتصير إلى علاقة بلدين ندّين بلا خلفيات استعمارية؟ و ما مصير أصدقاء فرنسا في تونس إذا كانت قد غيرت رهانها إلى غيرهم وبالأصح إلى عدوهم القديم؟ ومنها ألسنا نتوهَّم تغييراً ونحن لا نملك في الواقع أسبابه؟

الغنوشي في باريس

قناعة لا جدال فيها، فرنسا عدو أول لكل حركات الإسلام السياسي، وشخصياته. ويعيش كل الإسلاميين بهذه القناعة بما في ذلك الذين التجؤوا إلى فرنسا زمن المحنة. وفجأة تأتي دعوات رسمية من دولة فرنسا للرجل الذي صُنف دوماً كعدو.

يحتفل أنصار حزب النهضة في تونس بالزيارة؛ ويحق لهم الاحتفال، فمعطيات التاريخ القريب توضح أن فرنسا كانت العدو الأول للحزب منذ ظهوره، وهي التي حرضت عليه ودعمت كل ما يحاربه. واعتبرت أن بقاءه مفسدة لكل مشاريعها الثقافية والاقتصادية في تونس.

اختراق كبير لحزب إسلامي الهوى، وقد يكون بداية حوار مختلف بين لائكية فرنسا والأحزاب الإسلامية في المنطقة. ولكن من المبكر النظر أبعد من الحالة التونسية. ففرنسا لا تتغير بسهولة على الرغم من الفشل الذي عاشته في ليبيا والكابوس الذي يسببه لها الحراك الجزائري. لكن هل هو نصر لثورة تونس؟

فرنسا تخطط لتونس مستقبلها بعد

قناعة أخرى ثابتة وإن أنكرها حزب فرنسا في تونس والجزائر. فرنسا فاعل رئيسي بل الفاعل الرئيسي فيما يجري في امنطقة شمال إفريقيا. يقين ثابت أن فرنسا ليست بريئة من الاغتيالات السياسية التي حدثت في تونس بعد الثورة، وهي من تعمل على اختراق الصف الثوري، وإفشال سعيه إلى تطوير الأداء السياسي للبلاد وذلك من أجل الإبقاء على منظومة مصالحها، وطبقاً لقواعد عمل فرضتها منذ الاستقلال بحيث تبقى تونس بلداً تابعاً ومرتبطاً بشكل كلي بالاقتصاد الفرنسي، وقد وقفت الطبقة السياسية القديمة على هذه الحقيقة ولم تستطع الإفلات منها فعادت تهادن، وقد تكون زيارة الغنوشي استمراراً لهذه المهادنة.

لقد اختارت فرنسا الرئيس الباجي قائد السبسي ولم تكن الانتخابات الرئاسية سنة 2014 إلا تزكية لخيارها. وهناك مواقع نفوذ فرنسية مثل سوق السيارات، وسوق المواد الصناعية، والمنتجات الزراعية إلى السوق الأوروبية إذ تمر جميعها من ميناء مرسيليا وبخاصة زيت الزيتون.

إن الطبقة السياسية التونسية التي ترى النفوذ الفرنسي قدراً مقدوراً تفككت أو هي بصدد التلاشي، بما جعل فرنسا تفقد محاورها القديمة وتبحث عن بديل، فتجد الغنوشي في طريقها. شخصية سياسية ثابتة ومستندة إلى حزب منظم، وقادر على تأطير الشارع، والتأثير في مجريات السياسة ولو من موقع ثانٍ. كما جرت الوقائع بين 2014 و 2019.

ربما يكون قد طُرح سؤال في دوائر الحكم الفرنسية: من لفرنسا في تونس بعد حزب بن علي القوي؟ فجميع أنصارها أضعف من قيادة مظاهرة بمائتي شخص فضلاً عن الفوز في انتخابات وتوجيه عمل البرلمان إذا حشر حزب النهضة في موقع المعارضة.

من هذه الزاوية نقرأ دعوة فرنسا للغنوشي، وإفساح المجال أمام حركته السياسية. إن فرنسا تغير حليفها. فهل يكون الحليف نسخة أخرى من حلفائها القدامى، ويقدم لها نفس الخدمات القديمة مقابل استقرار وضعه في الحكم دون شوشرة الحلفاء القدامى الذي حرضتهم ضده طيلة عقود؟

طيلة فترة الزيارة لاحظنا صمت الإعلام المعادي للغنوشي في تونس، وصرفه النظر عن الزيارة وانعكاساتها عليهم وعلى وضع البلد. كأنهم تلقوا أمراً بالصمت وبخاصة عدم المزايدة بالوطنية، وحديث الاستقلال والسيادة، ورفض التبعية وهو الخطاب الذي يستسيغونه عندما ينتقل الغنوشي إلى تركيا أو قطر أو حتى الهند.

الزمن يختبر المسكوت عنه في الزيارة

لم ينجم عن الزيارة شيء كثير بعدُ باستثناء احتفاء الإسلاميين بها، وإعلانهم الانتصار. فمجال اختبار ما قيل وما خطط سيظهر في القريب العاجل، وهناك مؤشرات هامة ودالة.

أولها: موقف حزب النهضة من سيطرة اللغة والمناهج الفرنسية على المدرسة التونسية، وعلى عملية إصلاح التعليم عامة، وهي عملية متعثرة لأن فرنسا وأنصار ثقافتها في تونس يمسكون بدواليب التعليم في المستويات الثلاث (الابتدائي والثانوي والعالي). نتحسس حديث النهضة في هذا الباب وحرصها على بقاء الفرنسية لغة أولى (قبل العربية) هو عنوان صفقة عقدت على حساب تحرير المدرسة من أثر فرنسا.

وثانيها: موقف حزب النهضة من اتفاقية الأليكا (اتفاقية التبادل الشامل). فالاتفاقية تفتح السوق التونسية على المنتجات الأوروبية باسم تبادل يعرف الجميع أنه غير متكافئ، ولكنها ستكون شرط التعاون التونسي الأوروبي (الفرنسي خاصة). وهي بوابة التمويل تحت عناوين مختلفة.التساهل في بنودها يعني أن الصفقة قد عقدت وأن الزيارة كانت لتسهيل تمريرها بشروط الأقوى لا الأضعف.

وثالثها: إدارة الثروات الباطنية في تونس، والتي لفرنسا عليها يد طولى على الرغم من تعدد الشركاء ظاهراً. إذا لم يظهر شركاء آخرون فاعلون في المدى المنظور في مجال التنقيب والاستخراج والترويج للنفط والغاز والفوسفات والمعادن المختلفة، فإن وجهاً آخر من الصفقة قد أبرم. فماذا قبض الغنوشي مقابل ذلك؟

النهضة حزب حاكم؟

الثمن المحتمل -وهذا تخمين أكثر منه وقائع منظورة- هو أن تكفَّ فرنسا عن ملاحقة حزب النهضة في الداخل، وتسمح له بالتقدم للحكم دون تعطيلات داخلية تُحركها فرنسا بواسطة أيديها في تونس؛ وهي كثيرة ومنها بالخصوص الاتحاد العام التونسي للشغل تلك النقابة الشرسة في محاربة النهضة والتي أسقطتها عن الحكم في 2013.

في هذه الحالة سيشكل حزب النهضة الحكومة القادمة، ويزرع عناصره في النظام وسيتكلم ويتصرف من موقع القادر بعيداً عن تلك التنازلات المهينة باسم التوافق والحفاظ على الدولة وسيكون على أنصار فرنسا القدامى أن يصطفوا خلفه. إذ لم يعد لهم حق التشويش عليه إلا في حدود ضيقة يمكن ترضيتها من قِبل النهضة ذاتها.

في هذه الحالة نكون قد عرفنا وجه الحكومة القادمة وتوجهاتها وارتباطاتها. أي أن نتائج الانتخابات التي يتغنى بها الجميع قد حسمت، وما إجراؤها إلا تفصيل شكلي لاستكمال التغطية على دور فرنسا الأساسي في قيادة البلد، وليس تغيير الحلفاء إلا حلقة أخرى من الهيمنة القديمة التي غيرت وجهها ولم تغير طبيعتها.

ربما يمكننا الكتابة في شهر مايو/أيار 2020 أن زيارة الغنوشي في مايو/أيار 2019 قد رتبت وضع تونس القادم، ومكنت للنهضة وحجمت حلفاءها القدامى (مثلما كان لقاء باريس بين الباجي والغنوشي والذي رتب حكم البلد بين 2014 و 2019 (فيما سمي باتفاق باريس). ولكن لن يمكننا الحديث أبداً عن استقلال تونس وتعديد شركائها الاقتصاديين، وعن تغيير مناهج التعليم فيها. وما علينا إلا الاستعداد لعيش فترة أخرى من الاستعمار الفرنسي، ولكن هذه المرة بحليف جديد كان ذكر اسمه ممنوعاً في فرنسا فصار يدخلها على السجادة الحمراء.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات