نهاية الزعامات التاريخية في تونس

Photo

تعيش الساحة السياسية في تونس هذه الأيام على أصداء معركة زعامة داخل الجبهة الشعبية اليسارية، بين منجي الرحوي من حزب الوطد الموحد وحمة الهمامي زعيم حزب العمال والناطق الرسمي باسم الجبهة وزعيمها الوحيد منذ التأسيس، مدار المعركة الظاهر هو الترشيح للانتخابات الرئاسية القادمة وباطنها الذي لم يعلن ولن يعلن إلا في خاطرة عابرة هو إنهاء جيل القيادات السياسية العجوز.

هذه المعركة بدأت في الجبهة ولكن لن تكون الوحيدة، ففي حزب النهضة معركة قادمة على مكانة راشد الغنوشي وهي نفس المعركة التي أفشلت بناء حزب المرزوقي، هذا الجيل العجوز الذي يرفض أن يترك الساحة لجيل شاب يتعرض لنقد شديد من الداخل وقد يؤدي تمسكه بالزعامات إلى تذويب أحزابهم على خطى السيد نجيب الشابي الذي انتهى في عزلته وحيدًا.

الجبهة الشعبية ملك لحمة الهمامي

هذا عنوان مجازي ولكن دور حمة الهمامي في تأسيس الجبهة الشعبية وتجميع أطرافها كان محددًا خاصة أن حزب العمال (الشيوعي) سابقًا هو أكبر مجموعة سياسية بالجبهة وهو الأكثر تجربة في التنظيم الحزبي، فقد كان تيار الوطد يرغب عن التنظيم ويفضل العمل على شكل أفراد أو جماعات صغرى متحررة من كل تنظيم، بينما كانت جماعات البعث السوري والعراقي تفضل العمل السري الذي لم يكشف حجم وجودها في الشارع.

تقدم حمة الهمامي للانتخابات الرئاسية سنة 2014 فكرس ذلك زعامته رغم أنه لم يتجاوز الدور الأول، وفي مؤتمر الجبهة الأخير أعيد تثبيته ناطقًا رسميًا زعيمًا للجبهة رغم أن الانتخابات كانت في الأفق، هذا الوضع كشف جمودًا سياسيًا وتنظيمًا كبيرًا داخل الجبهة وجعل مكوناتها تتململ ضد الزعيم، ويعلن الرحوي (نائب برلماني عن الجبهة) زعامته في مواجهة الزعيم حمة، والمعركة لا تزال جارية ولا نظن أن الرجلين يؤمنان بحظوظ حقيقية في الوصول إلى سدة الرئاسة عبر أصوات الجبهة واليسار عامة (وما كل اليسار في الجبهة)، ولكن مدار المعركة هو مستقبل الجبهة بعد 2019، فهل يقودها حزب العمال أم الوطد الموحد، ونرى أنها معركة مصيرية ستحكم على مستقبل اليسار الجبهاوي في السنوات القادمة.

تستند هذه المعركة إلى خلاف فكري يعود إلى السبعينيات بين الطرح الديمقراطي الوطني (حمة الهمامي) والطرح الوطني الديمقراطي (الوطد) لا يتسع المجال للخوض فيه، ولكن أطروحات حزب العمال قادته يومًا إلى العمل مع الآخرين (حركة 18 أكتوبر) بما قربه وقد يقربه بعد من تنظيرات أحزاب الوسط الاجتماعي ويفتح له أفق عمل مشترك خارج الجبهة، بينما يصر الوطد على التخوين والطهورية الثورية التي تستهدف الإسلاميين ولا تستنكف عن التسرب داخل مفاصل السلطة حيث رأينا ونرى زعامات الوطد تشتغل بأريحية مع حزب بن علي ومن جاء بعده.

وهو ما جعلها تيارًا منغلقًا وبلا مصداقية في الشارع، وقد تآكلت هذه المصداقية أكثر بالتوظيف السياسي لاغتيال مؤسس التيار شكري بالعيد ضد حزب النهضة حيث لم تقدم حجج إدانة للعدالة واكتفى الحزب ولجنته بالدعاية الإعلامية غير المجدية.

زعامة الغنوشي محل جدال في حزبه

المقارنة ليست سهلة بين حمة والغنوشي، فوزن الرجلين في الساحة السياسية ليس واحدًا وحزبيهما لا يقارنان في الحجم والانتشار ولكن في حزب النهضة أيضًا يدور حديث عما بعد الغنوشي، وقد صرح عبد اللطف المكي من قيادات الصف الأول أن المؤتمر الحادي عشر (2020) سيكون مؤتمرًا انتخابيًا أي ستوضع فيه عهدة الغنوشي على رأس الحزب محل منافسة انتخابية، بعد أن تم تأجيل ذلك في المؤتمر العاشر.

في النهضة أيضًا توجد معركة زعامة، الذين يرون أنفسهم في مكان الرئاسة كثر، فحركة الغنوشي الدؤوبة في الداخل والخارج وجمله السياسية المتناثرة لا تكشف قائدًا بصدد تهيئة خروج سهل من القيادة، لذلك قد نرى معارك بين المتقدمين وبينه.

نعرف تعفف النهضويين فيما بينهم وتقديرهم لتاريخ المعاناة المشتركة وإيمانهم بأنهم وحدهم بعد وأن أي صراع علني بينهم يستثمر ضدهم ولذلك قد لا يخرج بخار معركة الزعامة للناس ولكن هذا لا يعني أنه غير موجود، يملك الغنوشي ورقة المال ويقارنه البعض بياسر عرفات في قيادة فتح، ولكن السؤال يوجه إليه إلى متى سيستمر ذلك وإذا لم ينظم الغنوشي خلافته على رأس الحزب فهل يضمن تماسك الحزب بعده بالنظر خاصة إلى كثرة الزعامات التي ترى في نفسها أهلية القيادة.

في الجبهة كما في النهضة فتحت معركة الزعامة وقيل الكثير بعد، الزعيم الرقم واحد العجوز الأبدي لم تعد محل ترحاب، فسبقت الجبهة إلى المعركة ولن تتأخر النهضة، وهذا أفضل من حالتي السيد نجيب الشابي والدكتور المرزوقي.

زعامات تلاشت وأخرى في الطريق

يعتبر السيد نجيب نموذجًا للزعيم الذي انتحر سياسيًا لفرط إيمانه بزعامته وحقه في القيادة، فقد فرط في حزبه بل في كل الأحزاب التي أسسها لأنها لم تكن قادرة على فرضه زعيمًا على البلاد، وهو الآن يخوض معاركه وحده فردًا صمدًا بلا سند ولا مدد، لكنه لم يقر - ولا نظنه فاعلاً - أن زعامته لم تعد محل إيمان من غيره، بل صار هو وأفكاره وتاريخه محل تندر جيل الشباب الذي فتح عينيه على الحرية والنقد الجذري للشخصيات السياسية ولم يعد يرضيها أحد، فالشابي نموذج للزعيم الذي أفرط في الإيمان بذاته فانتهى في ركن صغير منسي وهو الآن يسير في جنازته السياسية دون وعي بأنه مات.

ونرى المرزوقي على خطى الشابي وإن تأخر، فقد أتيحت للرئيس المرزوقي فرصة زعامة فكرية لكنه أصر على البقاء زعيمًا سياسيًا على رأس حزب، فلم يبن الحزب ولا تجمعت الكتلة التاريخية الوسطية خلفه، وحزبه الآن ينتهي إلى مجموعة صغيرة غير ذات أفق ولا فاعلية في المشهد بما يجعله هو ذاته رئيس حزب صغير رغم المكانة الاعتبارية له كرئيس سابق نظيف اليد واللسان من المشاحنات السياسية الصغيرة.

وفي سياق تنافس سياسي على الرئاسة لا نرى له حظوظًا كبيرة تعيد له مكانة الرئيس الزعيم خاصة أن الجمع بين السياسة والزعامة لم يعد مستساغًا في تونس، فصورة بورقيبة وطريقته في العمل وإن كنت هوسًا لدى كل سياسي إلا أنها ليست على هوى الشارع والنهاية البورقيبية هي الأقرب لكل من حاول أو سيحاول الجمع بين الأمرين.

لم يعد للزعامة التاريخية مكانة

ليست معركة الرحوي وحمة إلا عينة من صراعات قادمة في تونس تنهي بصفة دائمة الجمع بين السياسي الإداري والزعيم الفكري والسياسي، إنها علامة تغيير في العقول والنفوس، ويمكننا القول إن بورقيبة لم يمت فعلا إلا هذه الأيام، إنه نموذج استنفد.

ينتظر الناس رجل إدارة وتنفيذ قادر على تقديم نموذج مختلف لرجل الحكم يسبق مصلحة الناس على شهرته ومكانته الخاصة، فكان يمكن ليوسف الشاهد أن يكون هذا الرجل لكنه كشف ميولاً سنسميها ميولاً بورقيبية، فقد دخل المشهد بلا أرصدة زعيم ولكنه يركب رأسه وبوسائل غير نظيفة (منها استعمال أدوات الدولة لصالحه) ليكون زعيمًا ولا نخاله سيفلح في فرض نموذجه وإن حاز موقعًا متقدمًا الآن في المشهد.

إننا نرى ساحة سياسية تتغير وتصرخ أن فات عصر الزعامات وحان أوان رجال الدولة التقنيين نظيفي اليد واللسان، متى سيبرز هذا الرجل ويقود؟ وأي حزب يمكن أن يقدم واحدًا من رجاله للقيادة؟ إننا نرى بداية التمرد على الزعماء التاريخيين ولا نفلح وإن رغبنا في توقع هذا الشخص، دون أن نغفل أبدًا رغم أننا في أجواء عيد الاستقلال أن الرقم واحد التونسي لا يختاره التونسيون فقط بل إن لفرنسا دورًا رئيسيًا في تحديد هذا الشخص وفرضه على الساحة، وكل زعامات الساحة تعرف ذلك وتخضع له لذلك يترك السفير الفرنسي حرًا في قيادة غير رسمية لبلد بلا قيادة.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات