الديمقراطية والجيش في الجزائر؟

Photo

الأنظار منصبة على الجزائر وتسأل هل يحتمل الجيش الجزائري التعايش مع الديمقراطية على الطريقة التونسية أم يعسكر على الجمهور الثائر فيقمعه ويحكمه بالحديد والنار على طريقة الجيش المصري. الأسئلة مشروعة بالنظر إلى تعدد التجارب السياسية واختلافها بين الأقطار العربية واختلاف الأدوار التي قامت بها الجيوش العربية. نجادل هنا في بعض خصوصيات الوضع الجزائري ودور الجيش منذ معركة التحرير ونشأة الدولة الجزائرية الحديثة. فقد يكون في بعض هذه الخصوصية أمل في أن تمر الجزائر وقد دفعت في مذبحة التسعينيات ثمنا باهظا إلى حالة ديمقراطية تقلص دور المؤسسة العسكرية وتعيد الجنود إلى ثكناتهم.

الجيش الجزائري ولد في معركة تحرير

من فرق ثوار جبهة التحرير الوطني وفي معركة قاسية ودموية تكونت النواة الأولى للجيش الجزائري. لم تكن فرنسا الاستعمارية قبل ذلك قد أبقت أثرا لمؤسسة جزائرية أو هيكل يمكن استعادته فقرن ونصف من الاستعمار محق تراث الجزائر السياسي. عندما فاز المقاتلون بالاستقلال سنة 1962 كان لديهم ما يكفي من الرجال لبناء جيش بنخوة منتصر.

تلك النخوة المقاتلة والمنتصرة جعلت الجيش يعطي نفسه حقا أكبر من بقية المؤسسات الآخذة في التشكل في دولة إعادة خلق نفسها من العدم الاستعماري. فكان دور الجيش في بناء البلاد محددا لبقية الأدوار فالجميع يسير خلفه. وكانت حركة هواري بومدين في استبعاد أحمد بن بلة محددة في تبيان حدود مكونات الدولة. الكلمة الأولى للجيش ولا صوت يعلو فوق صوت جيش التحرير الوطني الشعبي ولم تكن القيادات السياسية في جبهة التحرير إلا صوتا لمؤسسة عسكرية تبني وطنا.

هذه القوة المستندة إلى تراث المعركة ونخوة القيادة خلقت ما يكفي من الغرور العسكري حتى أنتجت المؤسسة فسادها وغطته باسم شرف العسكرية ولم تكن معارك بوتفليقة في السنوات الخمس الأخيرة إلا جزءا من معركة ضد فساد استشرى داخل المؤسسة دون أن يستعفي فريقه المقرب من المشاركة في ذلك حيث كان لبعض مقربيه دور كبير في الفساد المالي والسياسي.

الجيش موحد الجزائر.

لم تكن الجزائر قبل الاستعمار الفرنسي دولة مركزية. بل إنها لم تعرف نموذج الدولة المركزية طيلة تاريخها. على غرار المخزن المغربي أو مملكة تونس أو مصر ولم تعط الجزائر يوما عاصمة من عواصم المتوسط. وهران في الغرب وقسنطينة في الشرق وبلاد المزاب في الجنوب. لم تكن موحدة بما يكفي لنتحدث عن دولة واحدة وإن لم تكن في عداء أو حروب بينية. لم يوحد الأتراك الجزائر ولم تعمل فرنسا على توحيد البلد بل كانت سياساتها تقسيمية طبقا للمبدأ الاستعماري البغيض فرق تسد. وقد حفرت أخدودا عميقا بين القبائل الأمازيغية والقبائل العربية لكي تفصل مكونين أساسيين اندمجا عبر زمن طويل.

معركة التحرير هي التي وحدت الجزائر الحالية والجيش المقاوم استلم بلدا موحدا عاطفيا في معركة تاريخية وحرص على بناء وحدة كاملة وحوّل الجزائر إلى بلد ثقيل الوزن في جواره وقارته وحول العاصمة الجزائر إلى عاصمة من عواصم المتوسط يحسب لها وزنها في ما يدور حولها.

عملية توحيد البلد وسعت مكانة الجيش في النفوس ومع شيء من الدعاية الإعلامية على الطريقة العربية صار الجيش هو ضامن هذه الوحدة

الجيش الجزائري مصعد اجتماعي

لم يولد الجيش الجزائري في قصور الباشاوات ورثة المماليك. بل يمكن القول إنه كله أحمد عرابي ولكنه عرابي المنتصر ولم يخدع في معركته. المكونات الأولى للمقاومين كانت من أبناء الأرياف والقرى. فهم من حمل السلاح وهم من قاد. وقد كان لجمعية العلماء التي بناها بن باديس في الأرياف دور في تحشيد طلبتها للمقاومة. العمق الريفي انتقل إلى قيادة الدولة فكانت دولة للريفيين قبل أن تكون دولة للحضر يحكمونها ويستبعدون أبناء الأرياف فالحضر كانوا قلة في حينها لضعف النسيج الحضري مقارنة بالريفي والبدوي والصحراوي. لقد قاوم الريفيون في تونس مثلما في الجزائر ولكن الحضر في تونس استلموا الحكم كما هو الحال حتى الآن.

ولذلك في الحالة الجزائرية تداخلت صورة الجيش المحرر مع صورة الجيش المصعد الاجتماعي في الدولة المستقلة. فمكن له ذلك في النفوس (نفوس الريفيين) فلم يعارَض الجيشُ في كثير مما فعل.

دور الجيش المقبول شعبيا سمح له بالتصرف في ثروات البلد الطبيعية وهي وافرة وتوزيع ريعها بما خلق كثيرا من الرضا الاجتماعي حتى نهاية الثمانينيات ودب الفساد في البلد حيث حصل التململ الأول والذي أفضى إلى العشرية الدامية والتي تلوثت فيها يد الجيش باسم محاربة الإرهاب والتطرف.

هذه المهام الثلاث الكبرى للجيش المحرر والموحد والمصعد الاجتماعي تجعل الجيش في الجزائر حالة عاطفية يصعب إرغامها على ما لا تريد رغم الفساد الذي شوه سمعة الكثيرين من ضباطها. فإذا أضفنا إلى ذلك شعورا بالتوتر الدائم ضد المستعمر الفرنسي يمكن أن نفهم أن الشارع يعول على جيشه لاستدامة معركة ضد فرنسا يراها تراود جيشه على نفسه وتفسده.

فرنسا والجزائر والجيش والديمقراطية

إذا أردت أن تفهم مشاكل الجزائر فابحث عن فرنسا. يمكن اعتماد هذا كقاعدة لتحليل تاريخ الجزائر منذ قرنين. وقد خرجت فرنسا مدحورة من الجزائر فاحتفظت بحقدها على البلد وضاعف الحقد الشعور بفقدان ثروة طبيعية تبين حجمها الحقيقي بعد الاستقلال.

عملت فرنسا على اختراق الجيش وأفسدت ضباطه. وخالد نزار أكبر دليل فقد مات عن ثروة عقارية في الجزائر تقدر ب25 مليار يورو.

يعرف الجزائريون عدوهم ويعرفون أنه وراء مذابح التسعينيات المخابراتية.ويعرفون أن فرنسا وراء معركة مفتعلة بين البربر والعرب. لذلك ظهرت شعارات معاداة فرنسا منذ أول الحركة ولن يؤتى الجزائريون بسهولة من هناك رغم الكيد الاستعماري ولكن علاقتهم بجيشهم ومحررهم وموحدهم ستظل إشكالية.

معضلة ميلاد ديمقراطية في الجزائر تمر عبر ترميم صورة الجيش في نفوس الجزائريين. وهو أمر عسير. فالجزائري ليس ضد الجيش في المطلق كما قد يكون حال المواطن المصري الآن بل ضد دور سياسي للجيش أدى إلى فساد كبير خرب الدولة وخرب الجيش قبل ذلك. ولا يمكن ترميم هذه الصورة والعلاقة العاطفية من جيش التحرير إلا بتقليص دوره في السياسة.

هل يعي الجيش أنه صار عبئا على شعبه؟ وأنه رغم أداوره الوطنية السابقة مدعو إلى إفساح المجال لحالة مدنية خالصة لتحكم البلد؟ وليس فقط واجهة مدنية لحكم عسكري كما جرى الأمر حتى الآن؟ إن لم تظهر مؤشرات من داخل المؤسسة العسكرية على ذلك وتعبر عن نفسها بتراجعات فعالة أمام الحراك الشعبي فسنتألم لحال الجزائر كما تألمنا لها في العشرية الدامية. وسيكون الجيش الوطني الشعبي قد تحول إلى ميليشيا تحمي فسادا أزليا. وتكون الدولة الجزائرية الأولى قد انتهت.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات