القوميون العرب والديمقراطية

Photo

أتتبع الإجابة عن سؤال بسيط في سياقات بناء الديمقراطية عربيا. وهو سبب فشل التيارات غير الإسلامية في بناء أحزاب جماهيرية. وسأهتم في هذه الورقة بتبيان أن القوميين العرب لا يمكن أن يبنوا أحزابا جماهيرية ولا يمكن أن يصلوا إلى السلطة في بلدانهم عبر صندوق الاقتراع. نحتاج هنا إلى بعض التاريخ وبعض الفكر. فالذي يؤمن بدور الزعيم الفرد لا يمكن أن يمزج بين دور الزعيم ودور الصندوق فهما نقيضان. والذي يختصر الطريق إلى السلطة بوسائل انقلابية لا يمكن أن يبني قاعدة جماهيرية تضمن له السلطة والقوميون العرب مارسوا هذا الأمر بإتقان ينعكس الآن على حجمهم ودورهم وأفقهم في السياسات القائمة في الأقطار العربية.

القوميون العرب مدافعون سيئون على فكرة عبقرية.

لا أحتاج هنا إلى التنظيرات الموغلة في التاريخ حول نشأة الدولة القومية في أوروبا بعد اتفاقيات واست فالي فالوضع العربي يحتفظ بخصوصياته التي لا تجعل مسار نشوء الدولة الغربية ينطبق كوصفة تاريخية مجربة على نشوء الدولة الحديثة في المنطقة العربية.

الاستعمار الفرنسي الانجليزي الايطالي الاسباني البرتغالي التركي خلق شعورا موحدا بالقهر يمتد من الأطلسي إلى المحيط الهندي. ساهمت اللغة المشتركة في نقل الآلام بين الضحايا وساهمت الروح الدينية في خلق مزاج مشترك مقاوم لكل صيغ الاستعمار، فلم انفض المستعمر عملت تلك الروح المشتركة على التوسع من مشاعر مظلومة إلى طموح في الفعل في التاريخ ولكن الطريق كانت طويلة وهنا قفز العسكر بالفكرة القومية إلى السلطة مختصرا عملا ضروريا لبناء وحدة شعبية قاعدية حول الفكرة التي لم تكن إلا مشاعر مضطهدة.

من العراق إلى موريتانيا حكم العسكر باسم الفكرة القومية العربية. وردد الشعارات نفسها وخلق حوله طبقة من المستفيدين الذين حولوا الفكرة إلى أيديولوجيا حكم وخلقوا لها أوعية حزبية مثل البعث أو الاتحاد الاشتراكي أو اللجان الشعبية.

لم تختلف أعمال هذه الأحزاب عن أعمال مثيلاتها غير القومية مثل حزب الدستور في تونس أو أحزاب المخزن في المغرب والتي كانت متهمة بأنها أحزاب قطرية معادية للأمة ومشروعها/ رسالتها الخالدة.

وضعت هذه الأنظمة قضية تحرير فلسطين في قائمة جدول أعمالها بل حولتها إلى مرتكز عمل سياسي داخلي باسم تحقيق التوازن الاستراتيجي مع العدو في أفق التحرير والبناء.

يمكن الآن تقييم هذه التجارب بكثير من الموضوعية باعتبار المسافة التي قطعها وعي الناس (الشعوب) بحيل السلطة في الدولة العربية وبعض هذه الحيل استعمال الفكرة القومية لتبرير مظالم لا حصر لها.

العروبة ليست القومية العربية.

فشل الأنظمة القومية لا غطاء له. ولو أقام فلولها الآن مآتم على الزعماء الأفذاذ المغدورين بالربيع العبري. لقد محّص الناس قول هؤلاء فاستخلصوا قضاياهم من دعايات مزيفة. فالأمة قائمة في مشاعر الناس وقضية فلسطين في وجدان الجميع ولكن النضال من أجل هذه القضايا لم يعد يمر بالقوميين العرب لأنهم كانوا أسوء مدافعين عن أجمل الأفكار والناس لها عقول وإن أخذتها تصاريف الحياة وراء الخبز العسير وبعض عسر الخبر العربي سببه حكام عرب حكموا باسم توحيد الأمة العربية والرقي بها فجوعوا شعوبهم بل أبادوهم في مجازر جماعية بعضها في حماة السورية وبعضها في حلبجة العراقية وبعضها في أبو سليم الليبية.

القناعة الآن أن الأمة واحدة(وهي من ثمرات إعلام قومي عربي) وإن اختلفت دولها في إدارة أجزائها وأن هذه الروح الجماعية مثيرة للفعل التاريخي (من أجل أمة واحدة) ولكن ضد القوميين أنفسهم في حالات كثيرة لذلك نعاين هشاشة المجموعات القومية التي تزعم مواصلة خطاب تحرير الأمة.

النضال القومي من أجل فلسطين لم يحرر شبرا واحدا من الأرض المحتلة حتى انتقلت المعركة إلى الإسلاميين في غزة وفي جنوب لبنان فأثخنوا في العدو وقلبوا معادلة الاحتلال والتحرير وركنوا القوميين خارج ميدان المعركة إلا أن يصطفوا خلف مقاومة إسلامية. وللصورة الكاريكاتورية القوميون الآن هم نائف حواتمة أمام أحمد ياسين.

وعليه فتحرير فلسطين لم يعد ملفا(ورقة دعاية سياسية) بيد القوميين العرب. لأن الزعامات المطلقة لم تكن في مستوى القيادة والقضية والأمة ومن هنا ندخل على سبب فقدان القوميين للسند الشعبي الجماهيري الذي يفتح لهم أبواب البرلمانات. أنهم يحملون وزر زعامتهم الفاشلة من العراق إلى موريتانيا. ولهذه الأوزار أثمان في الصناديق عندما حل أجل الصناديق. وزاد الأمر سوءا أن لا أحد منهم يتصدى بشجاعة لنقد تجربة القوميين في السلطة بدءا من القفز عليها بدبابة إلى حصرها في شخص الزعيم نصف الإله.

ولقد محّص الربيع العربي جوهر إيمان القوميين العرب بالديمقراطية. إنها لفظة تجري على ألسنتهم ولكن قلوبهم تخشاها. خشية كاشفة لعدم الإيمان الحقيقي بسلامة الفكرة القومية وقدرتها على التحشيد السياسي ضمن شروط العمل الديمقراطي التعدد كما هو الحال في تونس بعد الثورة.

ديمقراطيون في قُطْرٍ شبيحة في آخر.

إحدى القوى السياسية التي فاجأها الربيع العربي هي القوى القومية (وصفها بالقوى فيها كثير من المجاز فهي مجموعات صغيرة ومشتتة ومتخاصمة في ما بينها أن لم نقل تناصب بعضها العداء). لا لأن عناصرها غير ثورية أو متواطئة مع أنظمة فاسدة (الحاج محمد البراهمي رحمه الله كان أحد قادة ثورة 17 ديسمبر وهم مناضل قومي صميم ) ولكن لأن الربيع العربي اتجه إلى بناء الديمقراطية التعددية القائمة على الوصول إلى السلطة بالصندوق وليس بالدبابة.

مصدر الارتباك أن تصورا جديدا للعمل السياسي فرض نفسه على منظومة فكرية ذات جوهر انقلابي. فلم يلتحق الاجتهاد الفكري بالثورة غير المتوقعة فارتدت القيادات إلى تصوراتها الثابتة حول الديمقراطية الليبرالية الفاشلة خصوصا وأن أول التجارب الانتخابية قد وضعت أعداء التيار القومي العربي في صدارة المشهد السياسي ونعني هنا تيارات الإسلام السياسي.

لقد قاد هذه الردة أحد المفكرين القوميين وأعني هيكل. حتى شهر فبراير 2012 كان قوميون كثر يتحدثون عن الربيع العربي بعد مقابلة مطولة مع الأهرام المصري تحدث هيكل عن المؤامرة الدولية على الأمة فانقلبت خطابات القوميين أو أغلبهم إلى القول بالربيع العبري. من كان هيكل أنه لسان عبد الناصر ولسان كل عمل معاد للإخوان.

إذن فالثورة التي تأتي بالديمقراطية التي تأتي بالإخوان وتضع القوميين في الهامش ليست إلا مؤامرة ولذلك وجب الانقلاب ونظرنا فإذا هيكل يضع خطة انقلاب السيسي وعاد القوميون إلى مواقعهم سالمين. روح انقلابية لم تصبر على مجريات الصندوق. لم تر الزمن الضروري لتطور الديمقراطية التمثيلية. إنها طريق طويلة أسلم منها استعادة السلطة بالعسكر.

اختلاف تونسي طفيف

في المشهد القومي الانقلابي (حفتر- بشار- السيسي ) فجوة يتميز تيار من ضمن اسماء قومية كثيرة في المشهد السياسي هو حركة الشعب التي أوصلت نوابها إلى البرلمان. بما وضعها في حرج من تبني انقلابات عسكرية في تونس وفي غيرها. وبعدد قليل من النواب المنتخبين أفلحت في فرص محور معاداة التطبيع سرا وعلانية وفرضت محاور قانونية كشفت أن مكاسب الديمقراطية ممكنة ومتاحة وتراكم عبر الزمن. ودون خوض في النوايا بل وقوفا عن الموقف الرسمي فإن الحركة ترى عسكر الانقلاب مطبعا مع العدو وهذا فاتحة عمل سياسي طويل الأمد.

لكن نفس الحزب لم يفلح في النجاة من براثن النظام السوري باسم الممانعة رغم أن نتيجة العلاقة بين نظام بشار ونظام السيسي تجاه الكيان الصهيوني واحدة فأحدهما سلم سيناء والآخر سلم الجولان ولا حديث عن مقاومة حقيقة لتحرير أرضهما بله أرض فلسطين هذا الارتباك يدفع إلى الشك في عمق تخلص القوميين من الفكرة الانقلابية (باسم المقاومة والتحرير) فلا يمكن لمنظومة تفكير منسجمة مع مبادئها وخلاصاتها أن تكون ديمقراطية في مكان وشبيحة في آخر. أن هذا يؤجل الإيمان بتطور حركات القوميين العرب السياسية ويدفع الناس بعيدا عنهم فلا ينالون وزنا مؤثرا في السياسية ضمن سياق تعددي ديمقراطي.

شبح الانقلاب ساكن في قلب منظومة التفكير القومي العربي وإذا كان فقد وسيلته في تونس فإنه لم يعدم وسيلة في مصر وحتى ينتهي كابوس الانقلابات العربية فان القوميين سيظلون محل شك سياسي بين شعوبهم. ولن يطوروا الفكرة القومية ضمن سياق ديمقراطي سيظل القوميون محامين سيئين لفكرة عبقرية. فلا أحد يختلف معهم في أن تحرير فلسطين مهمة أمة متماسكة ولكن الجميع يرفض التماسك القومي تحت جنازير الدبابات المطبعة مع العدو. قد جربت طريق الانقلابات وفشلت والقوميون محتاجون إلى السير في طريق التجربة الديمقراطية حتى مداها. في خلاف ذلك سنكتب عن موتهم السياسي قريبا.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات