يا للإعدام !

Photo

منذ تأكيد إعدام الشباب التسعة في مصر وأنا أستحضر المعنى الشنيع للحظات ما بعد الحكم بالإعدام، أنا عرفت عن قرب ثلاثة محكومين بالإعدام في سجن الكاف عام 1986 وما زلت مريضا بهم رغم أنه لم يشنق منهم أحد في مشنقة الخروبة في تونس، وورثت في السجن روايات اللحظات الأخيرة للعشرات من المساجين الذين أعدموا، كان ثمة دائما من يشهد تلك اللحظات فتنتقل الرواية بين السجون من خلال "الكونفة" وتضاف لها تفاصيل روائية لتروى في ليالي السجن التي لا تنتهي،

إنما أيا كانت شناعة الحكم بالإعدام، فأنا في هذه السن أدرك أن العدالة الإنسانية تلخص في ضمان المحاكمة العادلة، إن انتهت بالإعدام وهذا نادر، فهو كثيرا ما يكون النهاية الأكثر رحمة لبعض من خلق الله، نحن العرب، لم نخترع مفهوم التشهير بعقوبة الإعدام بصفتها "عملا همجيا لا يقل شناعة عن الجريمة الأصلية"، لأننا مازلنا بعيدين عن هذا الترف الحضاري، نحن ما نزال بصدد عقوبات الإعدام السياسي الظالم في غياب أية شروط للمحاكمة العادلة،

أربع دقائق مع محكوم بالإعدام: كانت عيناه حزينتين، إنما بلا معنى، كانتا عينين فارغتين

عندما رموا بي في سجن الكاف في جانفي 1986، كان هناك في غرف العزل الرهيبة العائدة إلى زمن الاستعمار الفرنسي رجل محكوم بالإعدام لأنه قتل زوجته الحبلى من غيره وأمها من باب التشفي ولم ينجح في قتل أبيها، ولأني كنت في تلك الأيام الشاقة أصغر سجين فقد طلبوا مني أن أحمل إليه قفة أمه الأخيرة، قبل نقله إلى محكمة تونس على ذمة طلب تعقيب آلي تقوم به النيابة العمومية دون أمل في تخفيف العقاب، لأن الجميع كان يعتقد أنهم يذهبون به إلى "الخروبة" في تونس، حيث يتم الإعدام شنقا.

لم تكن لنا به أية علاقة إلا جوار غرفة المساجين الصغار بغرفة العزل في سجن الكاف، قال لي "كبران السنترة"، وهو سجين من أهلي، قاطع طريق حقيقي لا يتوب عن العنف محذرا: "الرائحة هناك لا تحتمل، إنه يتبول على نفسه"، وجدته مربوطا من يديه وساقيه مثل العبيد في أفلام السينما إلى حلقات معدنية في الجدار في غرفة طويلة تأكل الطحالب والخز جدرانها بسبب الماء المتسرب من الجدران،

وقد برر لي أحد ضباط الصف في السجن بعدها بأنهم يفعلون ذلك لمنعه من قتل نفسه. وقفت في الباب، دفعني حارس السجن إلى الأمام، قال لي: لا تخف، لم ينجح في قطع السلاسل رغم أنه يحاول منذ أكثر من شهرين، إنها سلاسل فرنسية عمرها نصف قرن"، تصورت أنه في وضع من ليس لديه ما يخاف فقده، وقلت إنه قد يقترف أية حماقة: قد يعضني مثلا، لذلك فكرت في المسافة الضرورية في التعامل معه، قد يكون اكتسب شراسة كلب مربوط مثلا،

أول ما أثارني فيه، هو أنه لا يتوقف عن البكاء دون صوت، رأيت عينيه المعذبتين بالخوف والرجاء المفقود، رأيت بياض الجلد في حزاز الحديد في يديه وساقيه المحاط بسواد الوسخ، وحالة القذارة التي لا تحتمل في جسده،

كان يرتعش ويردد بصوت خافت دون أن ينظر إلي: "يا لطيف يا لطيف"، وضعت القفة قريبا منه، حيث كانت السلاسل تسمح له بفتحها وتناول محتوياتها، لكنه لم يهتم لها، لم ينظر لي أصلا، لم أجده شريرا ولا خطيرا، بل بدا لي تعيسا في أقسى الأوضاع التي يتخلى فيها عنه العالم كله، حتى أمه التي تموت في كل زيارة إلى السجن دون أن تراه منذ صدر حكم الإعدام، تحولت كل أمومتها إلى قفة أسبوعية، كان فيها صحفة مقرونة، صحفة سلاطة، تفاحة ومنديل من القطن الأبيض الناصع المزين بالورد في أطرافه، لا أدري إن كانت أرسلت له شيئا آخر، وفكرت في أن الأم، عندما يكون ابنها في السجن قد تخترع طرقا سرية لإرسال أشياء لا يراها السجان، مثلا، طرقا سحرية تمكنه من اختراق جدران السجن، إنما لم يكن هناك شيء من ذلك، لأنه لم ينظر إلى القفة أصلا، صرخت فيه:

- عبد النبي، قفة أمك،

لم ينظر إلي، استمر يكرر "يا لطيف ويا لطيف"، وقتها انتبهت إلى أن بوله يجري بلا توقف وأنه لا يبدو معنيا بقذارته حيث تفوح رائحة بذيئة ونفاذة من بين ساقيه، حتى أنه لا يعرف كيف يستعد للإعدام، وأن رائحته فعلا لا تحتمل بسبب القذارة، همهم، حاول أن يتكلم، نظر لي بانكسار، عندها نظرت إليه في عينيه، كانتا حزينتين، إنما بلا معنى، كانتا عينين فارغتين، مد يده نحو القفة فأصدرت السلسلة رنينا لا يمكن أن يكون إلا جنائزيا لرجل يواجه شيئا نهائيا: الموت. لم يأخذ سوى منديل الأكل، وضعه على فمه، سحب الهواء من أنفه طويلا ليشبع روحه بشم آخر عطر يديها في المنديل، حاول أن يبتسم، وقال لي بصوت واضح بلا تردد:

- إنها رائحة يدي أمي، الشيء الوحيد الذي بقي لي،

كانت أربع دقائق، قياسية بقيت محفورة في ذاكرتي، مع رجل محكوم بالإعدام، قضى أكثر من نصف عام من عذابات انتظار القتل الشرعي المعلن، بعدها، عرفت شخصا حكم عليه بالإعدام من أجل جريمة قتل شنيعة في مدينة الكاف، كنا نحرسه ليلا من نفسه لكي لا ينتحر، بيد أنه كان يعجز عن النوم، بسبب خوفه من أن يتعرض للشنق في نومه، كان يقوم بعد لحظات من تناول الدواء المنوم يمسك رقبته بكلتا يديه ويندفع هاربا من فراشه نحو باب الغرفة حتى يصطدم رأسه بالباب المعدني الضخم، يحمي رقبته بأصابع كلتا يديه من مشنقة وهمية،

يضحك كثيرون، كان أشرار المساجين يتركون له على فراشه ورقة فيها صورة مشنقة، أو يكتبون كلمة "كوردة"، التي تعني مشنقة بالفرنسية المحورة حيثما يمر، عانى ذلك الولد طيلة عام ونصف حكم الإعدام المؤيد من محكمتين جنائيتين قبل أن يتم تحويل الحكم إلى السجن المؤبد، وقد التقيته في سجون وطنية أخرى، حيث قال لي بوثوق وألم مفاجئين: "لو تركتموني أقتل نفسي، لكان خيرا لي ولكم"، لن تقدر أبدا على تخيل عذابات انتظار القتل المعلوم، لن تقدر أبدا"،

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات