شهادة: حركة النهضة في مفترق التطبيع النهائي مع السيستام أوالتصالح الاستراتيجي مع دولة الدستور

Photo

يعرف كل من يعرفني منذ 40 سنة، أني كنت من أبناء الحركة الإسلامية، وتحديدا منذ سنة 1978. كنت من شباب ومن قادة شباب حركة الاتجاه الإسلامي في جهة قابس وفي الجامعة. ورغم أنني قد انفصلت تنظيميا وفكريا عن المدرسة الإخوانية منذ سنة 1984، بعد القيام بمراجعات بشكل فردي وجماعي، كان من نواتجها وثيقة نقدية تقويمية من 92 صفحة- أعدمتها للأسف- في حملة المداهمات على الإسلاميين، شملت الجوانب الفكرية والتنظيمية والسياسية في الحركة، إلا أنني لا أخفي محافظتي على أمل أن تجد الحركة الإسلامية أخيرا طريقها إلى صيغة وطنية مدنية عقلانية تندمج بها بتلقائية في المجموعة الوطنية كقوة بناء ورافد ازدهار واستقلال،

وأزعم أني قد ساهمت، أو حاولت المساهمة في تطوير الوعي الحضاري والاجتماعي والمدني والوجودي، لدى أبناء الحركة الإسلامية ولدى عموم الشباب، مع مدرسة الإسلاميين التقدميين، رفقة الأخ احميده النيفر ، وصلاح الدين الجورشي (المفكر والناشط المدني لا الإعلامي، سابقا، وليس حاليا) وعبد العزيز التميمي ومحمد القوماني وأصدقاء آخرين محترمين، وضمن فعاليات وسياقات أخرى أوسع على المستوى العربي والإسلامي.

فعلت ذلك، وحرصت عليه، لأني أدرك، كما أظن، أهمية التأطير الفكري والثقافي المناسب، لشباب أكبر حركة في تونس وفي البلاد العربية، بسبب نزعتها المحافظة المعتدلة، رغم استبطانها لبنية ذهنية سلفية، في الغالب، وأن جنوح هذه القوة المجتمعية والثقافية والسياسية الكبيرة نحو الغلو، سابقا، أو نحو اللبرلة التابعة والدوران في فلك العولمة المتوحشة، كما نخشى حصوله حاليا، سيمثل خسارة كبرى للبلاد، وكسبا لأعدائها في الداخل والخارج.

من هذا المنطلق، ظللت أتابع تطور الحركية الداخلية لهذه الحركة. وما هي مشرفة عليه الآن من تحولات، لحظة فارقة ومهمة وخطيرة للغاية، بقيت شخصيا، مع آخرين من دون شك، ننتظرها بقلق بالغ وبأمل وإيجابية في الآن نفسه. الآن حان زمن التروّي البنائي والتفكير العميق وفتح الباب أمام حوارات معمقة، لا تكتسي صبغة تنظيمية مغلقة، لأن مصير هذا الجسم الحركي السياسي والثقافي يهم كل البلاد، لما ستكون له من انعكاسات على توازناتها السياسية وتوجهاتها التنموية وخياراتها المجتمعية والثقافية والقيمية.

دعني أقول وأعترف من دون مركبات أن للحركة الإسلامية فضل كبير على المجتمع وعلى الأسر التونسية، بما قامت به من تأطير على قدر من الاعتدال والأخلاقية لعشرات الآلاف من الشباب الذين عقّهم (من العقوق) النظام العميل والفاسد في الزمنين البورقيبي والزعبعي، رغم أن الشبيبة المدرسية، والحق يقال، قد لعبت أيضا دورا تأطيريا مهما، لكافة أطياف الشباب التلمذي في العهد البورقيبي.

ولكن ضمور الوجدان الديني فيها ونزعة النظام التغريبية قد زهّد فيها الشباب الذين التحقوا تاليا بدوائر وأسر الحركة الإسلامية (هكذا كانت تسمى الأشكال التنظيمية القاعدية لدى الإسلاميين، بتأثر من أدبيات الشهيد حسن البنا رحمه الله). لقد لعبت الحركة الإسلامية إذن دورا كبيرا في حماية الشباب من الانحراف ومن القلق وكونتهم وثقفتهم دينيا وفقهيا بما حصنهم تاليا عن الانخراط في تيارات الجهل المقدس.

وما يقال عن ارتباط النهضة بداعش كلام فارغ، رغم تعاطفهم مع المعارضة المسلحة الإخوانية ضد نظام بشار في سوريا، وهذه قضية أخرى…وهو خطأ سياسي فادح…لأن الصواب هو في عدم تسليح المعارضة…كما نادى بذلك المرزوقي، وكما التزمت بذلك معارضة الداخل من جماعة هيثم مناع والقوى الحقوقية…

الآن أملي في أن يعرف الإسلاميون كيف ينضجون قرارهم في التغيير الحاسم، بأن لا يكون ذلك تحت تأثير إكراهات اللحظة الحاضرة، كما كان تحت خيمة قمة باريس المشيخية، بحيث لا يعدو أن يكون تكتيكا غير مؤصل فعلا في الفكر والاستراتيجيا. وألا يستسهلوا المضي في خيار التطبيع غير المشروع مع السيستام، فالسيستام ليس هو بالضرورة الدولة.

الدولة دولة الدستور والدولة دولة المدنية و دولة السيادة والاستقلال والدولة تقدم والدولة عدالة والدولة حرية والدولة دينها الإسلام ولغتها العربية، وليست فسادا واستبدادا ونفاقا وانتهازية وعمالة. حلقة مفقودة لطالما ناديت بها، وقد ناديت بها في إحدى المرات في اجتماع شعبي لحركة النهضة بحضور لطفي زيتون في جها قابس، وهي إحداث مركز دراسات استراتيجي- ليس من أجل البروباغندا والتبرير- ينضّج الخيارات الاستراتيجية على مهل وبتحرر من ضغوط الآني والتكتيكي…

تونس تحتاج لحزب وطني مدني محافظ وعقلاني ذو توجه سيادي وديمقراطي اجتماعي لتأطير القوى المحافظة في البلاد (تحضرني الآن أسماء مثل عبد اللطيف المكي وعبد الكريم الهاروني وعبد العزيز التميمي ومحمد القوماني)، ويقيم تحالفا مع القوى التقدمية المعتدلة ذات التوجه الوطني السيادي والديمقراطي الاجتماعي كذلك…

لو يتحقق هذا الأمر فسنكون مطمئنين بدرجة كبيرة على مستقبل تونس، وحتى وإن ارتفعت أصوات ثعالب وغربان وبوم بالعواء والعويل والنعيق… فسينبلج صبح الحرية والكرامة والسيادة الوطنية في آخر ليل الفتن والمؤامرات الخسيسة.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات