الإسلام السياسي في مواجهة النخب؟

Photo

نقل عن الأستاذ الشيخ راشد الغنوشي مؤسس حزب النهضة الإسلامي التونسي وقائده القول (لا يمكن أن تحكم شعبا تعاديك نخبه. لا بد للذي يحكم من نصيب في النخب الثقافية والفنية والاقتصادية والإدارية. الثورة التونسية لم تحدث انقلابا في ميزان القوى، أحدثت خللا نعم، لكن ليس انقلابا يسمح لصندوق الاقتراع بأن يقرر لوحده من يحكم). وهو قول يثير رغبة في النقاش وكم بودنا أن يفتح هذا القول الباب لجدل بناء حول موقع الإسلام السياسي ومشروعه خاصة مشروعه الثقافي الذي يبدو مغيبا وراء المجهود السياسي على التموقع ضمن النخبة الحاكمة في البلد.

النخبة ليست كتلة واحدة على قلب رجل واحد

ملاحظة أولى لبدء النقاش هي أن النخب عامة والنخبة التونسية خاصة ليست على قلب رجل واحد وليست حاملة لمشروع جماعي موحد لفكرها وممارساتها في المجتمع. ولذلك فإن التعميم الوارد أعلاه يتجاهل هذه الاختلافات ليقع في تبرير السياسات المتَّبعة حتى الآن. ويمكن وعبر اختصارات دقيقة أن نصنف ثلاثة اتجاهات داخل النخبة وذلك بحسب تكوينها ومواقفها من تيار الإسلام السياسي:

1. نخبة حضرية ارستقراطية قديمة تستند إلى شرعية منتهية الصلاحية عمليا متخيلة وموهومة لكنها لا تزال فعالة في تحديد سلم القيم والهويات الحضرية خاصة. وهى تنظر إلى نفسها كفرقة نقية (عرقا وثقافة) يشوِّهُها كل حضور غريب ريفي خاصة. لذلك فإن الغنوشي مثله مثل حمة الهمامي أو المنصف المرزوقي غرباء طارئون لا يستحقون حكم المدينة. ولا يمكن التعامل معهم إلا للضرورة القصوى كإسناد عملية استعادة السلطة لأهلها الشرعيين. الإسلام السياسي يزعج هذه الفئة لأنه يذكِّرها بأن فهم الدين وتسويقه لم يعد حكرا عليها كما يذكرها بسقوط سلم قيمها المبني على الميز والتحقير (والاستعباد). لذلك يمكن استعمال جمهور الحزب الإسلامي دون تمكينه من السلطة أما إدماجه فليس مطروحا.

2. نخبة علمانية لائكية تربت في الجامعات الفرنسية واشتغلت كشارحة وكاتبة هوامش للثورة الفرنسية فتبنت الصيغة الأكثر تطرفا للعلمانية الفرنسية. وسيطرت على الجامعة التونسية عبر لجان الانتداب بعد أن أقصت المنافس الإسلامي. وهي ترى في الإسلام السياسي النقيض الوجودي لها وليس في برنامجها إلا استئصاله فكرا وجسدا ولو سعى إليها زحفا.

3. نخبة تقنية (تكنوقراط) منبثة في الإدارة تزعم الخبرة في كل ميدان ولا تحمل فكرا ولا مشروعا سوى خلاصها الفردي فهي العمود الفقري للطبقة الوسطى التونسية التي انتعشت من مواقعها وباعت ولاءاتها لمن حكم وهي مستعدة لفعل ذلك مع كل من يخدم مصلحتها. علما أن للإسلام السياسي جند كثير ضمن هذه الفئة (خريجو الهندسة والعلوم التقنية ولكن يبدو أنهم غثاء سياسي). في أي فئة من هذه النخب يمكن للإسلام السياسي الاندماج وتقديم نفسه كشريك مجتمع وحكم؟

فكرة الاندماج والقطيعة

يقرُّ الغنوشي بأن الثورة لم تحدث القطيعة مع هذه النخب ولذلك لم يمكن للصندوق الانتخابي أن يصبح فيصلا في الحكم. وبالتالي على الإسلام السياسي أن يقترح نفسه بطريقة سلمية على الناس حتى يزول الخوف منه ويتحول إلى بديلهم وهذا قول طيب في ظاهره لكنه يخفى أمورا كثيرة.

أولا: يتجاهل هذا القول التفويض الشَّعبي الذي حصل عليه حزب النهضة في انتخابات 2011. وهو تفويض كشف رغبة شعبية فعَّالة في تصفية النخب القديمة لا التعامل معها أو مداهنتها. وتحمُّل الكلفة السياسية لذلك. كان تفويضا بمواصلة الثورة عبر الصندوق.

ثانيا: يخفي فقر الحزب الإسلامي البرامجي وتأخره في توقع التغيير الموجب لإعداد البدائل. وذلك نتيجة تصور لم يخرج أبدا من موقع المعارض إلى موقع الحاكم. فأغلب الوجوه المتصدرة الآن في الحزب كانت نجت من المحرقة وتوفَّرت لها أسباب العلم والاستعداد ولكن عند مقارنة رغبتها في الحكم وبقدرتها عليه نجد أنها أنفقت وقتا كثيرا في انتظار أن تعود إلى وضع الضحية.

ثالثا: يتهرب هذا القول من الإقرار بأن إسقاط حزب النهضة من الحكم لم يتم بقدرات النخبة المحلية (المخيفة) بل بالضغط الخارجي المباشر. منذ تزييف نتيجة انتخابات 2011 مرورا بالاغتيالات السياسية وصولا إلى التهديد الدائم بالانقلاب العسكري وقطع التمويل الخارجي حتى فقدان التفويض الشعبي في انتخابات 2014. إن القوى الخارجية نفسها لا تحترم هذه النخب ولا تعتمد عليها بل هي توظف بعضها كعنصر شغب داخلي أو مخلب قط ضد الإسلام السياسي فقط. لكنها لا تثق بها للحكم ولذلك تراها تسقط فتبتزها أكثر نازعة عنها كل غلاف وطني.

هل على الحزب الإسلامي أن يقاطع هذه النخب القادرة بالتمويل الخارجي أن تحوله إلى جزيرة معزولة وسط مجتمعه؟ يبدو أن هذا السؤال طرح كثيرا وسط الحزب وأنتج الموقف الذي عبر عنه قائده. الهروب من العزلة السياسية والبحث عن الاندماج بقوة في النخب (خطة الانتشار) ولكن ما هو الثمن الذي سيدفع من لحم المشروع نفسه نظير التحول إلى جزء من هذه النخب؟

دعونا نكون معكم سنكون مثلكم

يشتغل الإعلام التونسي الآن ويساعده إعلام حزب النهضة على تقديم الشيخ الغنوشي كزعيم وحيد في البلد وضامن لاستقراره. وأرى في ذلك خديعة كبيرة يزدهي بها أتباع الحزب فتوهمهم بالتَّمْكين لكن الواقع غير ذلك وهذا ليس استنقاصا من ذكاء الشيخ الرئيس وحنكته خاصة في إنقاذ أولاده من محرقة ثانية.

إن تجربة الاضطهاد الطويلة التي عانت منها القيادات الحالية قد تحولت إلى شعور دائم بالاضطهاد. واستفحلت لدى الجيل الذي ولد لآباء مساجين أو مُهجَّرين أنتجت لدى الإسلاميين أمرين:

أولا: إحساسا بالاضطهاد يتحول أحيانا إلى فرح غامر بمجرد أن يدار حوار بين إسلامي وأحد وجوه النخبة (الاستئصالية خاصة). وأعتقد إن فكرة الاندماج في النخبة هي تعبير آخر عن هذا الاضطهاد إذ يضع الإسلامي نفسه فرعا يبحث عن أصل. ولا يفكر كأصل مستقل حامل لمشروعه الخاص.

ثانيا: تأجيل النقاش التأسيسي في المشروع الإسلامي نفسه. حتى الآن يجتنب الإسلاميون الإجابة عن السؤال ماذا يعني الآن وهنا مشروع حزب إسلام سياسي؟ النقاش يعني مراجعة الأسس الفكرية وبناء أفق تفكير جديد عن الذي ولد فيه الإسلام السياسي الإخواني. توجد أفكار كثيرة متناثرة لكن لم يتجلَّ الجامع بينها. ونرى أن الذهاب إلى النخب بدون مشروع هو طلب قبول دون شخصية فارقة. دعونا نكون معكم سنكون مثلكم.

ما العمل إذن؟

هذا السؤال ليس موجها للإسلاميين وحدهم بل لكن من يأنس في نفسه انتماء للوطن وللمستقبل ولو كان الإسلاميون هم مدار الحديث هنا. نعتقد إن فكرة الانتماء للنخب في جوهرها هي إعادة إنتاج نفس النخبة بنفس الفكر أي بالمشروع المستنفذ الصلاحية الذي قامت عليه الثورة ولذلك فإن التجديد يقوم على خلق نخبة أخرى ذات مشروع وطني استقلالي لا يتموَّل من التَّبعية. وخلق نخبة ليس سهلا ولكنه عمل طويل النفس (وهذا أتفق فيه مع الشيخ). يقوم أولا بكسر آليات إنتاج النخبة الحالية.

فالمدن وجامعاتها ومؤسساتها الثقافية استنفذت أغراضها ونخبتها ومنوالها الذي نرى نتائجه الآن. إذن الحل ليس الاندماج في الموجود وإنما أن نتذكر أن هناك شعب عبثت به هذه النخب وأفرغت كل طموحاته في مصالحها وآخرها الثورة الاجتماعية.

نعتقد أن الاندماج في الشَّعب (لا إلحاق الشَّعب بالنّخبة) بمشروع اجتماعي يتجاوز الآليات القائمة لصناعة النخب هو أفق ممكن للتفكير والعمل وتصور مستقبل يملأ الإسلام السياسي بمشروع جديد ولا ينتظر كسالى النخبة أن يُمْلُوا على تيار الإسلام السياسي تغيير اسمه ليصير واحدا منهم باسم يروق لهم.

ولنتذكر كلام العميد المجدد المجتهد عبد المجيد الشرفي الذي اتخذ من نفسه مسطرة ليقيس بها أن النهضة قطعت نصف الطريق إلى الاندماج وعليها أن تقطع نصف الطريق الباقي بالقبول على سبيل حسن النية أن الإيمان بالمثلية الجنسية وفرضها هو شرط ضروري لتحقيق الوطنية.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات