الخطأ مكان المدرسة

Photo

هناك خطأ كبير.. خطأ بحجم إنسان.. يحتاج مدرسة كبيرة.. مدرسة بحجم وطن..

المقولة البيداغوجية تتحدّث عن المدرسة التي تقوم مقام الخطأ لإصلاحه: المدرسة مكان الخطأ. ولكن ماذا حين تصبح المدرسة نفسها هي الخطا ؟ الخطأ مكان المدرسة؟

الخطأ نلمسه كلّ يوم ونراه ونسمعه في هذا المسمّى لدينا: تعليم.. هذا الذّي أصابته الإعاقات من كلّ جانب فأنتج الإنسان المهدور.

السّفينة مليئة بالثّقوب والماء ينفذ إليها والركّاب تلاميذ ومربّون وإداريون لا يملكون طوق النّجاة وهي تسرع نحو المجهول. يكفي أن تتأمّل الفضاءات التّعليميّة العموميّة المتداعية ( الدّار ) والمربي المتداعي ( الكرّاي بلغة الوزير ) والتّلميذ المتداعي ( الملّاك بنفس اللّغة ) كي تدرك الخطر الذّي يحيط بسفينة التّعليم التي لم تصل موانئ الحريّة والكرامة الإنسانيّة.

الخطأ بدأ منذ تحوّل التعليم من حقل خصب لإنتاج المعنى والقيم والوطنية وامتلاك المعرفة وأدوات النّقد والتّفكير إلى " دار مقام " لأصحاب الرّؤية الضيّقة والمصالح والحسابات الضيّقة وإلى مرتع لحصان الإيديولوجيا الجامح وملعب للسّاسة وسوق لقيم السّوق فأنتج إنسانا مهدور العقل مهدور الكيان.

وقبل ذلك كان التّحديث القسريّ لخطاب " حداثيّ " استعدى ثقافة مجتمعه واعتبر الحداثة إسقاطا للمدرسة الفرنسيّة الأوروبيّة وكان التّعليم يقاس بمقاييس وفائه للمواصفات ومناهج وتوجّهات هذه المدرسة دون كلّ التجارب والفتوحات الأخرى وبعيدا عن خصوصيّات الإنسان هنا وبعيدا عن معنى السّيادة كقيمة تنتج إنسانا حرّا فأنتج داخله معادين لحداثته ناقمين عليها يندفعون نحو كلّ التّنظيمات والتّعبيرات الكارهة " للحداثة " وإلى كلّ أشكال التطرّف ضدّها.

الخطأ كان بحجم إنسان..

أفرغ التّعليم بعد ذلك وخاصّة مع هيمنة الخوصصة والاعتداء على التعليم العمومي من مضمونه الانساني والقيمي وصار مرتعا للفوضى و"الايدي السوداء " تقتل فيه المعنى والقيم والتفكير من اجل الربح. فكان الضحيّة الإنسان. وخرّبت الدّار برمّتها على ملّاكها وكرّائها..

خرّبت حديقة التعليم. ولم نستنبت حداثة خاصّة في النّفوس والنّصوص رغم المحاولات فنشأت أجيال كشجيرات عجاف مقطوعة عن جذورها وتتيه عن سمائها ولا تحطّ عليها العصافير وتعجز عن التحليق بعيدا عن اقفاص الوثوقية والانغلاق ووزنازين القوالب والانساق.

كلّ يوم نرى تداعيات هذا الهدر: غياب النّموذج الإيجابيّ بعد تحطيم الرّموز التي تختزل المعنى وتفيض عنه.. هيمنة السّواد على النّفوس.. أحد تلامذتي قال لي في سياق حديث عن القيم: لا أمل مطلقا في هذا المجتمع. يحتاج تدميرا كليّا..

هي رغبة مكتومة داخل الكثير. يكفي أن يتكلّموا لتتبيّن حجم الإحساس بالخيبة والإحباط. من المنطقة المعتّمة في الدّاخل تتصعّد رغبة في الهدم لا البناء. إذن من سيزرع الوطن؟

ـ هذه أرض جدباء لا تزرع.. أصابتها الألغام فصارت عقيما..

ـ من زرع الألغام؟

ـ جيلكم..

وسط بحيرة اليأس التّي تقيم في الدّاخل لا بدّ من أن تتفتّح أزهار نيلوفر بيضاء تقفز عليها بعض الأفكار الجديدة. الانتصار على السّواد لا بدّ أن يبدأ بالانتصار للأفكار الجديدة..

رهانات كثيرة على المدرسة أن ترفعها لتحلّ محلّ الخطأ بعضها:

ـ رعاية شجرة القيم المدنيّة وحمايتها في النّسيج التّعليمي والإعلامي والثّقافي. فما يصنعه التّعليم يخرّبه الإعلام في كثير من الأحيان.. التّعليم وحده لا يكفي إذا كان الإعلام فاسدا والثّقافة فاسدة. القطع مع الوثوقيّة والمناهج الأحاديّة وبناء الفكر التّحليلي النّقدي المركّب. القطع مع ظاهرة احتقار الذّات والكره المرضي للثّقافة العربيّة الإسلاميّة. بناء القدوة الإيجابيّة: النّموذج المثالي لمقاومة اختلال المعايير ودفع الأجيال إلى استلهامها واستمداد القيم منها. بناء مواطنة تتحرّر من السّلوكيّات الزبونيّة ومن المحسوبيّة والجهويّات والسّلوكات غير السويّة. إشاعة الوعي النّقدي وعدم تبذير الذّكاء..

هذه الرّهانات وغيرها كثير تحتاج آليات لتحقيقها. بدءا من صيانة الفضاءات المتداعية لتكون فضاء حرّا للمتعة لا للعذاب.. فضاء لا كاري فيه ولا ملّاك.. لا استعلاء ولا إهانة.. بل تعايش خلّاق من أجل بناء العقول والأرواح.. وصولا إلى مراجعة الخيارات التي ظلّ التّعليم حبيسا لها لعقود. وبعيدا عن الإسقاطات التي لا تتلاءم مع واقعنا يمكن فحسب الاستنارة ببعض التّجارب النّاجحة في مجال التّعليم لندرك الخلل القائم المفضي حتما إلى اختلال الإنسان. ففي بلد كالنّورفيج يأتي ترتيب المواد والضّوارب وفق هذا التّرتيب:

1ـ التّربية الأخلاقيّة والدّيانات العامّة 2 ـ اللّغة النرفيجيّة 3 ـ الرّياضيّات 4 ـ الدّراسات الاجتماعيّة ـ 5 ـ الفنون والمهن اليدويّة 6 ـ الطّبيعة وعلم البيئة 7 ـ اللّغة الانجليزيّة 8 ـ الموسيقى 9 ـ الاقتصاد المنزلي 10 ـ التربية البدنيّة 11 ـ التّربية على التّراث.

لنتأمّل: الضّوارب الأقوى متعلّقة بموادّ التّربية الإخلاقيّة والقيميّة وباللّغة الوطنيّة.

ألا تمثّل إذن مراجعة الضّوارب والبرامج أحد البوّابات التي تتيح مقاومة الخلل في الإنسان؟
التّربية العاطفيّة والقيميّة وتربية العقل على التّفكير خارج السّبل المعبّدة عبر تدريس الإنسانيّات وأهمّها الفلسفة وتدريس الأدب وتقوية ضوارب هذه المواد التي تمثّل خزّان قيم وتحرير التّعليم من قيم السّوق وتحويله إلى حقل للقيم الإنسانيّة هي ممرّ إلى فكر نيّر وذات مشبعة منفتحة على الحبّ تعي جيّدا دورها البنّاء في الحياة وتمارسه بمرح وحماس.

هناك خطأ بحجم إنسان .. يحتاج مدرسة بحجم وطن.. وطن يزرع شجرة.. شجرة قيم وارفة الظلّ بها يحتمي الإنسان من الهاجرة وقيظ النّفوس واللّصوص..

ليكن الوطن هو المدرسة..

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات