مرثيةٌ من الأزهار : إلى إبن الوطن .. المُنتحِر .

Photo

ذاك الطّفل لم يمت

ذاك الطّفل لن يموت

ذاك الطّفل لا يموت ..

الليلة أبكي بكاء كلّ أطفال العالم .. فمن كان قادرا على البكاء فليدخل بيتي آمنا و من كان عاجزا عن ذلك فليغادر من النّافذة دون ضجيج .. لأنّي أقف على باب الفايسبوك ماسكا ببندقيّة الإدانة و أصابعي على الزّناد .. و بعد قليل سأطلق رصاصتي الوحيدة صوب هذا العالم الدّاعر الّذي باعت فيه أمّي - سيّدة هذا العالم في المئة سنة الأخيرة - الكثير من السّجائر و البيض الطّازج لعُتاة المجرمين في ميناء الصّيد البحري في سوسة .. لتُعيل 7 صغار كنتُ أكبرهم فلا يحتاج منهم أحد لا لشفقة أحد و لا لحنان أو مالٍ من أحد .

الليلة سأبكي دون توقّف حتّى يهدّني التّعب و يُغمى عليّ .. فإنّ ذاك الطّفل البريء لم ينتحر هناك بل تدلّى هنا في قلبي حين سقط مغشيّا عليه و ثَمِلا بالخيبات و الأحزان … آآآآخ يا بلدي يا بلد الأطفال الغارقين في الخيبات و الّذين يتساقطون في الآبار أو من فوق الأشجار جثثا تفوح بعطر الطّفولة الخالدة .

أخيرا لنا ميزةً و مجدا : نحن البلد الّذي يحزن فيه الأطفال حدّ الإنتحار … مرحى مرحى ..

و لي مع الأطفال حكاية تعود جذورها إلى ربع قرن من الزمان أو أكثر .. في بدايات الإبتدائي حين ماتت إحدى بنات القبيلة تحت عجلات الجرّار .. و لقد فزعنا جميعا إلى مكان الحادث ورأينا الدمّ الاحمر البريء و قضّينا أيّاما في بكاء لا ينتهي و قد ظننتُ أنّ ذاك الجرح الطفولي قد إندمل إلى أن فاضت أحزان قلبي هذا المساء .. تلك الفتاة كانت خرافة من خرافات الجمال .. و قد كنتُ أخطط أن أكون أوّل من سيكتب لها رسالة حبّ حين تبلغ الخامس عشر من عمرها .. و لكنّها ماتت هناك حالمة بأطفالنا الّذين كان بالإمكان أن ننجبهم لو أنّ الدّهر منحنا الفرصة .. و من وقتها و أنا سرّا أزور قبرها لأبكي و حولي أطفالنا المُفترضين : كلّ واحد منهم يقود عرشا من الفرسان الشّجعان المستعدّين لغزو هذا العالم الدّاعر الّذي لا يرحم كبيرا و لا صغيرا .. و يتسابق فيه الأطفال أفواجا صوب الإنتحار .

بعد تلك الحادثة بعامين أو ثلاث .. مات طفل آخر في المدرسة قِيلَ أنّه سقط في البئر و هو البئر الّذي كان المصدر الوحيد لمياه الشّرب في ذاك الزمان قبل أن يأتي ماء الحنفيّات الأشدّ وسخا من كلّ مياه العالم .. و قد كان طفلا متفوّقا ..الأوّل في قسمِهِ .. و كان وسيما و متخلّقا .. و قد ظللتُ لفترة طويلة أمضي صوب البئر لأنظر فيه عسى ان أراه هناك يبتسم لي .. فقد كنتُ منذ الطّفولة مقتنعا أنّ الاطفال لا يموتون .

المرة الثالثة كانت في الثانية ثانوي ( الثامنة أساسي الآن ) .. حيث إنتحر تلميذ في معهدنا شنقا في شجرة زيتون .. و قد كان يوما كئيبا لا يُنسى .. و لا زلت برغم السّنين أذكر إلى اليوم درّاجته الّتي يركبها .. و حين أغمض عيني ألمح ضحكته تخترق الآفاق .

و مع ذلك فلا تقولوا لي أنّ ذاك الطفل الصغير قد مات ..

لا ااا … لاااااااااااااا

إنّ الاطفال لا يموتون .. بل يتحوّلون إلى عصافير صغيرة تؤثّث هذا العالم بالأغاني و الموسيقى و الامنيات ..

أنا لا أرثيه .. بل أضع فوق قلبه باقة من الازهار و أطلب منه الصّفح .. هو الكبير الخالد و أنا المسكين العابر .. فليسامحني لأنّني إنتميت لهذا العالم الّذي حاصره بالأحزان و الحرمان .

فليسامحني .. أنّي لم اكن حاضرا هناك حين تدلّى من الشّجرة .. لم أكن هناك لأسمع كلماته الأخيرة .. و أقرأ في عيناه أحلامه الطريّة بدراجة صغيرة و بيتٍ واسع و حذاءٍ أنيق و أبوين متحابّينِ و حكاياتٍ و حكايات .

فليسامحني .. فلو كنتُ إنسانيّا بما يكفي لكنتُ هناك و لأخذته لنلعب الغمّيضة أو لنصطاد الحمام .. أو حتّى لنركض خلف بعضنا دون أيّة وجهةٍ محدّدة .. فلكم يحلوا لنا نحن الاطفال أن نمضي صوب الآفاق البعيدة دون أدنى حسابات مثلكم أنتم معشر البشر ..

فليسامحني .. فلو كنتُ هناك .. و كنتُ إنسانيّا بما يكفي .. لحضنتهُ الحضن الكبير و منحتهُ من الحنان ما قد يكفيه لعشر سنوات عجاف .. فلكم من طفل آخر قد منَعهُ الحنان من أن يتدلّى من فوق الشجرة .. شجرٌ يهوي من فوقِ شجرْ .

يا أيّها الطّفل الّذي تدلّى .. لازال حبلكَ الّذي شنقتَ به العالم يتأرجح في قلبي .. و لازلتُ عاجزا عن النّظر في عيناك الحزينتان .. فسامحني بآسم كل الأطفال و بآسم كلّ الأنبياء و بآسم كلّ الأحلام ..

سأحاول إكرامًا لكَ .. أن أمنع أطفالا آخرين أن يفعلوها .. فإنّما وُجد هذا العالم من أجلكم وحدكم .. فإن ألغيتم العالم من حساباتكم و مضيتم بعيدا .. فماذا نحن فاعلون دونكم ..؟؟

لقد صار الوطن بعدكم خرابا كبيرًا .. بلا وردٍ و لا أشجار !!!

أنا لا أرثيكَ حبيبي

إنّما أضع فوق روحك باقة أزهار .

و أمّا أنتم .. فلا تقولوا لي أنّ ذاك الطّفل الصّغير قد مات منتحِرًا ..

ألم تعرفوا بعد .. و يا للغرابة .. أنّ ..

ذاك الطّفل لم يمت

ذاك الطفل لن يموت

ذاك الطفل لا يموت .



Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات