شيء ما يأفل.. شيء ما يقمر

Photo

رغم كلّ شيء هناك شيء ما يأفل.. وهم الحزب المنقذ ووهم النّخبة القائدة ووهم حكومات الكفاءات ووهم " الدّولة الحديثة " التي هي امتداد للمنظومة القديمة القادرة على إيجاد الحلول السّحريّة وصنع المعجزة التي وعدوا بها الشّعب في أكبر عمليّة تحيّل على العقول شهدتها البلاد..

كلّ هذا يأفل.. كما يأفل وهم..

رغم كل المساعي إلى إخفاء الصّدع الكبير إلّا أنّ الشّقوق المؤذنة بالانهيار وما صاحبها من تسرّب لسيل العفن من داخل البناء المتداعي أفقد كثيرا من النّاخبين لهذا الحزب ثقتهم به. ولم يستطع الإعلام هذه المرّة أن يحجب الحقيقة الفجّة التّي فاضت وانتشرت رائحتها العطنة لتصيب النّاس بالقرف. انتشر الحديث عن العصابات المتناحرة على السّلطة حتّى بين الشّرائح المنسيّة التي اعتبرت دوما أرضا خصبة لأراجيفهم وجيشا احتياطيّا لتحقيق انتصاراتهم. ووسط هذه الشّرائح صار الخطاب مختلفا والغضب صريحا: لقد وقعوا في الفخّ الإعلامي ولن يصدّقوا الإعلام ثانية. هذا ما صرّح به أكثر من واحد..

أدرك الآلاف أنّ المنظومة القديمة في أشكالها الجديدة ولوبياتها المتجدّدة وبرموزها وأنظمتها لا تزال تغرز مخالبها وتنشب أظافرها في اللّحم التّونسيّ وتمنع بصناعة الخوف كلّ تغيير حقيقيّ لصالح الإنسان..

وعاد الصّراع إلى مجراه بعد انحراف..

هناك، من بين الشّقوق والتصدّعات، يزهر كنبتة بريّة تنجم في الرّكام وعي جديد حاولوا تزييفه بأقصى أساليب التّلاعب الإعلاميّ وبتجييش إعلاميين لم يقصّروا في أداء دورهم كاملا. كانوا أدوات لدى مهندسي الخراب ولا يزالون. ولكنّ الخراب ينقلب ضدّهم. وها هم يتآكلون ويخرّب بعضهم البعض ويسعون إلى إنقاذ أنفسهم بأبنية أخرى تبعث من الخراب. ينقذون أنفسهم بالصّورة المبهرة وبالبهرج الذّي يصاحب احتفالاتهم بالجوائز الدّوليّة التّي قبضوها بعد تنازلات جمّة عن أحلام بالعدالة الاجتماعيّة ومحاسبة القتلة والفاسدين.

هي دولة تتظاهر بالانتصار وسط عجز عن إيجاد حلول عميقة لمشكلات تستعصي عليها وتزداد عسرا وسط صراعات اللّوبيات وخطر الفوضى الذّي قد تشيعه أطراف عينها هناك.. على الكرسيّ في القصر.. ووسط نخبة سياسيّة وثقافيّة لا هاجس لها غير التّموقع، فتأفل صورتها وتفقد صوتها وتتيه في طرق الطّمع الملتوية.

هناك شيء ما يأفل.. ما صنعته أطراف ذات نفوذ في الإعلام طوال عقود وخاصّة طوال الأربعة سنوات: الوعي المزيّف المنحوت بمطرقة " نخبة " الخبراء والمحلّلين المقيمة في بلاتوات تزوير التّاريخ والتّلاعب بالعقول وإشاعة الرّداءة وهدر الإنسان.

وما صنعه " مثقّفون " يتظاهرون بالدّفاع عن الحداثة ويمارسون في الآن نفسه أقصى أشكال الاستئصال..

وما صنعه يساريون انتهازيون أباحوا كلّ الطّرق للوصول إلى روما..

في مقابل كلّ هذا..

هناك شيء ما يقمر.. وعي جديد لا يزال مرتبكا ومتعثّرا لكنّه يفتح طريقا ويرسم أملا تنثره أقلام صادقة و " نخبة جديدة " لا تدّعي كونها نخبة ولا ترى في البلاتوات ولا تسمع في الإذاعات ولا تروّج صورها ولكنّها تعمل كدبيب النّمل تحفر في مغاور المعنى وتراكم زاد السّفر في الطّريق الطّويل إلى أفق جديد لوطن نحلم به لا يكون فيه الإنسان مهدورا ولا الوطن مستلبا وفعلها يسري تدريجيّا في العقول والأرواح. هو وعي جديد يقمر ونحتاج فيه إلى إزاحة غمام كثيف يحجب الرّؤية. غمام ينتج الغموض ويعيق الفعل. نحتاج " الوضوح الضّروريّ في لغزنا المشترك ". ونحتاج إلى توحّد عشّاق الطّرق الوعرة والجبال الشّاهقة والمسافات الطّويلة حيث المشي حفاة على جسور الحطب المرتعشة فوق الأودية السّحيقة كما يفعل الأطفال الذّاهبين إلى المدارس وحيث السّقوط كلّ آونة والوقوف ثانية مغامرة الوجود الكبرى.

السّير في الطّرق السّهلة: طرق الانتهازيّة والمكر والغدر والطّعن في الظّهر.. يسير وغير شاقّ.. لكنّه لا يصنع وطنا كبيرا..

وحده السّير على جسور الحطب المتداعية بروح المغامرين يصنع الإنسان العظيم والوطن الكبير..

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات