إنتاج جيل ثان من المتطرّفين

Photo

محاصرة الإنسان ومطاردة فكره وإيذاء روحه كانت دائما أدوات الاستبداد للإخضاع ومطاردة الإنسان لدينا لها تجلّيات عدّة من بينها إخضاعه منذ منتصف القرن السّاق إلى نزعات الاستئصال ضدّ كلّ ما يتّصل بالوجدان الدّيني وهي نزعات مارستها الدّولة الحديثة باسم التّحديث الذّي قصد إلى الخلط بين الدّين بما هو ارتواء بالوجود ورؤية للعالم تحترم الإنسان وتسعى إلى تربيته عاطفيّا وأخلاقيّا وبين التّراث الدّيني بما هو إنتاج تاريخّي تقاطعت عدّة عوامل في تشكيله من بينها فقه السّلاطين وتاريخ الفتن والتّناحر حول السّلطة والمتخيّل الدّيني بما يحمله من خرافات ومعتقدات وأوهام أنتجها وعي جماعيّ للشّعوب خاصّة في أزمنة انحدارها.

هذه النّزعة الاستئصاليّة لما هو متجذّر في الوجدان الدّيني باسم الحداثة من علمانيين تميّزوا بخلطهم بين التّحديث والتّغريب وبتواطئ مع يسار فهم الدّين فقط باعتباره " أفيون الشّعوب " وظلّ متمسّكا بهذه المقولة يحفظها عن ظهر قلب دون مراعاة للفارق الحضاريّ ولوظيفة الدّين وتاريخه وغافلا، في قراءته المتحنّطة، عن قدرة الدّين على أن يكون أداة تحرّر بيد الشعوب المقهورة مع عدوانيّة مقيتة لكلّ ما يتّصل بالإسلام وفهم مخاتل له أفضى إلى ظهور أصوليّات دينيّة وجدت في التطرّف سبيلا للتّعبير عن وجودها ومقاومة إرادة التّغريب ومواجهة التّحديث القسريّ الذّي لم تستطع مقولاته أن تنفذ إلى أعماق المجتمع وتترسّخ في الوعي الجماعي فظلّت غريبة وسبّبت انشطارا داخل الذّات وتشظّيا لا تزال آثاره جليّة بيّنة في ازواجيّة الممارسة والتّفكير وفي تناقضات الإنسان وتصدّع كيانه إلى حدّ مأساويّ أحيانا.
إثر التحوّلات الطّارئة ومع دستور جديد يكفل الحريّات بأنواعها خلنا حدوث نقلة نوعيّة في التّعامل مع من تسمّيهم الدّولة " دعاة التطرّف " بمحاولة استدراجهم إلى ساحة الحريّة حيث تكون المقارعة فضاء للتطوّر وممارسة قوّة الحجّة لكن ما حدث هو تفاقم النّزعة الاستئصاليّة وظهور دعوات صريحة إلى " التّطهير " والقضاء على هذه " الأجسام الغريبة " التي انتشرت " كالفقاقيع " داخل المجتمع.

وساهمت صناعة الخوف من الظّاهرة الدّينيّة والسّعي إلى ربطها في كلّ الأحوال بالإرهاب إلى تحوّل نسبة كبيرة من " أصحاب اللّحي " وصاحبات الثّوب الأسود والحجاب إلى أعداء حقيقيين للدّولة " الحديثة ". وساهم خطاب الكراهيّة الذّي صاغه مثقّفون يدّعون حداثة لا يرون فيها سوى معاداة الدّين في تأجيج الغضب والاندفاع نحو التطرّف إزاء الدّولة مرّة ثانية. ولم يضطلع كثير من المثقّفين بدورهم في فهم الظّاهرة فهما عميقا وصياغة خطاب يسمح بإدماج هؤلاء في الدّاخل بل سعوا إلى طردهم معنويّا وإبقائهم خارج الدّولة ممّا نتج عنه معظلات حقيقيّة أهمّها عدد الشّباب الذّي يطلب خلاصا خارج حدود الدّولة التي " أطردته ".

ومشكلة الدّولة أنّها تأبى الإصغاء إلى خطاب دينيّ يتبنّى قضايا المجتمع وكأنّ قدر الخطاب الدّينيّ أن يظلّ مرتبطا فقط بمباركة السّلطة ومنحها الشّرعيّة ، رغم أنّ هذا يتنافى مع مبادئ العلمانيّة التي يدّعيها البعض. ومشكلة الدّولة أن لا تسيطر على هذا الخطاب الذّي يزداد تحريضا ضدّ الدّولة كلّما ازدادت هي تحريضا ضدّه بأدواتها القانونيّة والقضائيّة. ومشكلة الدوّلة أن تجد أيمّة شرفاء يتحدّثون عن الفقر والقهر والجوع والحيف ويعملون على مقاومة كلّ هذا فتسعى إلى إقصائهم عبر توجيه تهم تستبدل فيها تهمة الزّندقة القديمة بتهمة الفساد حاليّا. و تاريخنا الإسلامي لا يخلو من أيمّة ورموز تصدّوا لظلم الدّولة ووقفوا إلى جانب الإنسان فكانوا " زنادقة " في نظرها كما يصبح الأيمّة اليوم " رموز فساد ". .

الإصلاح الدّيني ليس في عزل أيمّة وتنصيب آخرين ترضى عليهم أطراف يقظّ مضجعها أن يحظى الخطاب الدّيني بشعبيّة متزايدة دون تفكير في الأسباب العميقة بل في مراجعة فهمنا للدّين والتّأكيد على مناصرته للإنسان لا للدّولة.

وعندما تغيب الدّولة التّي تحتضن كلّ أبنائها وأطيافها على اختلاف انتماءاتهم وإيديولوجياتهم تظهر آنذاك كلّ أشكال التطرّف . وما يحدث الآن من إحساس بالقهر والغبن سيكون عاملا لإنتاج جيل أو أجيال أخرى من المتطرّفين.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات