قِفَا نبكِ..

Photo

"قِفَا نبكِ".. هي في تقديري أعظم مطلع لقصيدة في تاريخ الشّعر العربي.. و العرب لا يضاهيهم أحد في العالم قديما و حديثا في قول الشّعر.. و بالتّالي يمكن إعتبار هذه ال" قِفَا نبكِ" هي العمق الأكثر تعبيرا عن أسباب فرارنا للشّعر لنقول ما نعجز عن قوله نثرا .

إنّ "قِفَا نبكِ" تقول تحديدا ما أدور حوله كلّ يوم عاجزا عن كتابته بشكل جيّد.. لذلك اعتبرت نفسي دوما كاتبا فاشلا.. و موسيقيّا فاشلا على اعتبار أنّ الموسيقى الروحانية كتلك التي ألّفها العبقريّ الفذّ موزارت كانت أيضا نوعا من ال" قِفَا نبكِ".. و عندما هيمن عليّ الإعجاب الشديد بموزارت أدركت إدراكا لا رجعة فيه أنّني الرجل الحالم كثيرا و الفاشل أبدا .

نعم.. أنا أسعى جاهدا لإعادة المجد لروحانية الدموع.. أن أنقذ عيونكم من القسوة.. و أنقذ دموعكم أن تبذّروها في متاهات لا تليق بعظمة البكاء.. أي أن أساعدكم على إكتشاف الآفاق الأكثر روعة و القضايا الأكثر مأساويّة و التجارب القُصوى الجديرة حقّا بالبكاء .

لقد جئتُ إلى هذا العالم وهو ينحدر سريعا في هاوية بلا قرار.. جئتُ في زمن غروب الإنسان وشروق الأوثان.. و أرى القوم قد عادوا القهقهرى إلى عبادة أصنامٍ جديدة.. و يا ليتها كانت أصنامٍ من حجر لكان انبرى لها فرسان كخالدٍ و عليّ و حطّموها على قحفِ أصحابها.. و لكنّها أصنام جديدة.. لا مرئيّة و شديدة الرّسوخ في الروح.. و عالية الإغراء.. تتسرّب فينا دون أن نشعر و تنتهي بأن تشغلنا نهائيّا عن الشّغف بالحقيقة.. و مكابدة المعنى.. و الرّحيل صوب آفاق الإنسان الأكثر تعبيرا عن شرف الوجود .

لذلك.. قليلا ما يمرّ يوما لا أبكي فيه و لو دقيقة من الزمان أو على الأقلّ دون أن أرغب فيه في البكاء بشدّة فيعوزُني المكان و الظروف.. و أكتفي بمسح عيوني أو غسل وجهي متعلّلا دوما للآخرين بأنّ ترابا وقع في عيني.. و يا للهول.. فلعلّ أحدهم قد تفطّن أنّ تراب العالم كلّه قد وقع في تلك المآقي الّتي لا تملّ عن الإنشغال الدّائم بمأساة العالم و خيبة الإنسان .

نعم.. إنّ عالما يبكي سيكون بإمكاننا أن نعوّل عليه حقّا و أن نأمل فيه خيرًا.. ولكن هذا العالم المشغول بكلّ أنواع اللهو والسّلع والتسوّق والمظاهر والنّمط والشّعوذة..إنّ عالما مثل هذا لم يع بعد أحزان سقراط.. ولا شهامة عروة بن الورد.. ولا غربة غيفارا.. ولا فَرَادةَ أسامة بن لادن.. ولا آهات موزارت.. ولا أسئلة نيتشه.. ولا رسالات الأنبياء عليهم السّلام.. ماذا يمكننا أن نفعل فيه غير أن نبكي.. ليس بكاء العاجز الضّعيف والمنهار (هههه أحدهم قال لي بالفرنسية : لا تكن فراجيل).. بل هو بكاء الفارس الواعي برعب المصير وعظمة المهمّة وعمق الرّهان.. بكاء من لا يحمل أحزان ذاته بل أحزان كلّ البشر.. والأعظم من ذلك أنه يتصدّر لحملِ هموم الأفكار والمعاني.. فأسمّي ذاك الفارس: إستشهاديّ المعنى أو إنتحاري القيم.. إنّه يبكي حدّ الهلاك ساخرا من جميع السّاخرين منه قائلا لهم: إنّ إخفاقكم في فهم المأساة الإنسانيّة هو في حدّ ذاته مأساة أكثر مدعاةً للبكاء .

ختاما.. لقد أبكتني الكثير من المشاهد ومن أعظم ما أبكاني في سِيَرِ الأوّلين هذه الحكاية الّتي ذكرتها سابقا وأعيدها عسى أن نفهم ما أسمّيه بأمجاد الدّموع :

" عَنْ أَنَسٍ، قَالَ : قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ: "انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ، نَزُورُهَا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزُورُهَا، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا بَكَتْ، فَقَالَا لَهَا: مَا يُبْكِيكِ؟ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: مَا أَبْكِي أَنْ لَا أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ، فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ فَجَعَلَا يَبْكِيَانِ مَعَهَا" .

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات